تساءل الشيخ عبد المحسن النمر في خطبة الجمعة الأخيرة عما يختبئ خلف المظهرالجذاب للحضارة الغربية من أسس تقوم عليها هذه الحضارة، وعما إذا كانت متوافقة مع الجماليات أو بعض الأخلاقيات التي يتحلى بها الغرب في معيشته، وخلص إلى أن الغرب يعيش حالة من التناقض التي التي تفضي به إلى حالة من السوء والقبح تناقض ما يظهر عليه من جماليات.
وافتتح سماحته الخطبة تاليا الآية الكريمة (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عبادي ( * ) الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب ( * ))
ثم شرع سماحته في الخطبة مبينا أنّ هذه الآية القرآنية " على اختصار ألفاظها تشكل قاعدة تربوية علمية معرفية مع مختلف آراء البشرية ومختلف مذاهبهم ومناهجهم". وأوضح أنّ القول في القرآن الكريم لا يقصد به حصرا اللفظ والمعاني اللفظية التي ترتكز على إدارة ألفاظ معينة، بل يدلّ على المنهج والرؤية والطريق والمسلك الذي تتبعه مجموعة بشرية.
وأضاف: كل مجموعة بشرية أو كتلة بشرية، لها منطقية في أفكارها، والقرآن الكريم لا يمنع الإنسان من التطلع إلى سائر ما عند سائر الأمم من آراء وأقوال ورؤى ومناهج، بل يقول: انظروا إلى ما عند الأمم، ولكن أولي الألباب هم الذين يستمعون القول فبتبعون أحسنه، فليس كل ما عند الناس باطل لا أصل له، بل إن الكثير منه له معنى وقيمة وله احترامه.
إلا أنه استدرك بالقول: ولكن ما لم يكن نابعا من مصدر صحيح ويصبّ في طريق صحيح فهو ليس أحسن الأقوال، فكثير من الأمم عندها نظريات علمية ومعرفية ونظريات في السلوك البشري، لها حق الاحترام والتقدير، علينا أن نستفيد منها، ولكن المنهج الصحيح الذي ينجو به الإنسان هو الذي ينبع من منبع نقي ويصب إلى مصب سليم ينتهي بالإنسان إلى الفوز والفلاح.
لعلي أتوقف في هذه الخطبة عند درجة من درجات الاحتكاك المباشر بيننا وبين الحضارات الأخرى، وبالأخص الحضارة الغربية.
وأشار سماحته إلى الاحتكاك المباشر الذي نعيشه اليوم مع الغرب قائلا: سابقا، كنا نعيش حالة من حالات تبادل الفكر والمعرفة والمناهج، شئنا أو أبينا نحن نعيش في عالم تقع فيه حالة من حالات التبادل الفكري والمعرفي، واليوم أصبحت الحالة أكثر من هذا، لم تعد المسألة مسألة سمع ونقل من بعيد، بل أصبح عدد كبير من أبنائنا يعيش حالة مباشرة من الاحتكاك بالعالم الغربي والحضارة الغربية.
وأضاف: بحسب الإحصاءات التي تنشرها الجهات الرسمية، يبلغ عدد الشباب الذين يسافرون ويعيشون في الخارج، ولفترة زمانية مهمة من حياتهم، إلى الآن، ولعل العدد في حالة تزايدية مستمرة، إذا أخذنا مجموع من ذهبوا لا أعرف كم يصبح الرقم، ولكن الذين يدرسون في الخارج الآن قد بلغوا 150 ألفا بين شاب وشابة.
هؤلاء يعيشون زهرة حياتهم، هذا الشاب الذي عمره 18 سنة أو 20 سنة يعيش زهرة حياته، وربما حتى قبل أن تنضج أفكاره المعرفية، وقبل أن يتعرف على أحكام دينه، وقبل أن يتعرف بصورة تامة على مقاصد الدين وأهدافه، يضطر لأن يعيش في وسط يختلف عن بيئته ومنهجيته وحياته التي تعودها.
ولهذا كان لزاما على الوالدين بالدرجة الأولى، وعلى رجال الدين وأبناء المجتمع بالدرجة الثانية، أن يوصلوا المعلومة الصحيحة والمعرفة الصحيحة والوعي الصحيح لهؤلاء الشباب، قبل أن تلتقطهم وتجتذبهم هذه الحضارة بمختلف درجات تأثيرها في نفوسهم.
• جماليّات الغرب وعوامل الجذب عنده
لا يسع المجال لتناول ما يواجهه ويقع فيه هؤلاء الشباب والفتية، ولكن لا بأس بأن نشير إلى مجموعة من الملاحظات التي تشكل عنصر تأثير قوي في شخصية الإنسان الشاب الذي يعيش في تلك الدول.
هناك جوانب ربما يفتقدها الشاب في بلاده وقد لا تتوفر له، فإذا ذهب إلى الخارج يجد عالما مختلفا جذابا له رونق وجمال، هذه الأمور يفترض أن نتوقف عندها لنعلم نحن أولا كآباء وكمجتمع وهؤلاء الشباب كفتية يواجهون هذه الحالة ماذا سوف يواجهون، ما هي جوانب الحسن في ذلك العالم وكيف يتعاملون مع هذه المحاسن؟ هل يقبلونها بما فيها؟ هل هناك توقف في بعض جوانبها؟
لعلي أشير إلى ما نتلمسه وما رأيناه وعايشناه ولو لفترة قصيرة من تلك الحالة الجمالية الزاهية الجذابة في الحياة والحضارة الغربية:
1- أول ما نلاحظه هو الالتزام التام بالقانون، بالطبع لا أعني كلّ أفراد المجتمع فهناك حالات من التجاوز كثيرة ولكنها بصورة عامة إذا قيست بمجتمعاتنا التي لا تعطي لأي قانون احتراما فإنها حالة متطورة جدا إذا ما قورنت بحالة عدم الالتزام لدينا وعدم احترام أي تنظيم.
فنحن نرى مثلا في حركة المرور والتعامل مع الآخرين وتطبيق القواعد الاجتماعية، هناك التزام تام بهذه القوانين التي تضعها جهاتٌ إدارية، سواءا كنا نرتضيها أو لا نرتضيها. ففي القضاء مثلا، في السلوك اليومي، في السير والتعامل، في المعاملات التي تجري بينهم، في المدارس، هناك التزام تام بهذه القوانين إلى درجة حالة من التعبد بالقوانين.
2- الانضباط والالتزام بالأقوال والوعود التي يلتزمون بها في حياتهم الاجتماعية، فنادرا ما نجد أحدا يخلف الوعد الذي يعدك به. في الغالب يلتزمون بمواعيد عملهم، يلتزمون بأقوالهم ووعودهم، هناك حالة من تقديس الوعد والالتزام به. وكما ذكرت كل هذه حالات جذابة وجميلة.
نحن لسنا في مقام نقد أو غير نقد، نحن في مقام وصف تلك الحالات وتأثيرها على الشاب المؤمن.
3- الحرية، حرية الموقف والكلام والنقد، نقد أي شيء لم يعجبه، نقد شخص أو مسؤول كبير، ليس هناك حواجز للتعبير عن رفض الناس لمسؤول مهما كان كبيرا، هناك محاسبة وحرية تامه في اختيار طريقة الحياة والعمل.
أقول هي حرية تامة إذا ما قورنت بحياتنا التي نعيشها، أما على نحو الحقيقة فالأمر يحتاج إلى نظرة أعمق.
5- عدم التمييز بين الناس إلى حدّ كبير، والمساواة أمام القانون، الأبيض كالأسود، وابن بلدهم كمن هو من خارج بلدهم، أمام القانون، الناس متساوون ولا تمييز بينهم.
• حقّ المتّهم
وهنا لا بد أن نقف موقف حسرة وألم على ما نعيشه من قضاء قوانين لا تحترم للناس مساواتهم ولا العدالة فيما بينهم، تمثل لنا حسرة قوانينُ لا تحترم مساواة ولا إنصاف، ولا حق الإنسان في المعاملة معه بالمساواة، فترى القاضي وله موقف مسبق ومعادٍ مع المتهم ويقف أمامه المتهم دون أن يكون له قدرة ووسائل الدفاع عن نفسه، ولا وسائل التعبير اللائقة التي يحتاج إليها.
لا بد أن نقف موقف أسف وحزن لبعض شبابنا الذين تعرضوا لأحكام لم تكن مناسبة لما صدر منهم من أعمال، كان يجب أن تؤخذ هذه الأمور بمأخذ مختلف، ولكن لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
- هذه الأمور والجوانب الجمالية في الغرب تستحق الثناء، الغرب لديه من الشيء الجميل ما يحث شرعنا وديننا على عدم بخسه، حتى لو كان بيننا وبين أحد اختلاف فإننا لا نبخسه حقه من الجميل.
• مآلات الغرب .. عربةٌ وحصانان متعاكسان !!
ولكن دعنا نتحدّث عن المسألة من حيث أثرها علينا ومن حيث منتهاها، ومن حيث حقيقتها،هذا الجمال الظاهري والبشاشة وحسن التعامل الظاهري وهذه الجاذبية ماذا تخفي وراءها؟
من أين تنبع؟ وإلى أين تصب؟ هذان سؤالان مهمان وفي غاية الأهمية، قد تجد كلاما وموقفا جميلا ولكنه نابع من عين نتنة قبيحة، فإلى أين تتوقع أن يصبّ ويؤدي؟ هذا لن يصبّ فهي لا في مصب قبيح وغير حسن.
ومن هنا لا بد أن نتوقف عند الصفحة الثانية والجهة الأخرى، أمام هذا الجمال الظاهري ماذا يخفي هذا الجمال؟ وهل ينفع أن يتمسك الإنسان بجانب من جوانب الفضيلة الأخلاقية؟ أنا أصور هذه المسألة أنها كالعربة التي يجرها حصانان، فماذا لو كان أحدهما سريع والآخر بطيء، أو أحدهما يتجه للأمام والآخر واقف أو متجه للخلف. فإلى أين سوف تسير هذه العربة؟!
إذا لا بد لنا من أن نتحدث عن الجانب الآخر من هذه الحضارة لنعلم ماذا تمثل وإلى اين تتجه.
• إنكار الإله
أول ما نلحظه في هذه الحضارة هو الإلحاد بالله عزّ وجل، نعم، القائمون على هذه الحضارة يقولون: ليس لنا موقف من الإيمان بالله، بل وليس لنا موقف من الأديان، كل إنسان بإمكانه أن يتبع أي دين، هناك حرية تضمن أن لكل شخص الحق في اختيار ما يقول به ويؤمن به.
وهذا صحيح من الناحية اللفظية والنظرية، لكن من الناحية الواقعية والتربوية فهي حضارة تقوم على التنكر لكل الأديان، ولا تعترف بدين ولا تعطي لأي دين قيمة من القيم، إذا أخذت ابنك لتلك المدارس ودرسته من أول مرحلة الدراسة إلى منتهاها فإنه لن يجد خلال هذه الفترة أي كلام عن الخالق عن الله سبحانه وتعالى، ولا حديث عن أصل هذا الوجود وأصل مسيرة الإنسان، ولا أي اشارة لدين أو مبادئ ترتبط بالخالق، عن أصل هذا الوجود، وعن أصل مسيرة الإنسان، لن تجد شكرا للخالق. لا في المدرسة ولا في العمل ولا في القانون ولا في أي جهة من جهات الحياة، ليس هناك إشارة لأي مبادئ ترتبط بالخالق عزّ وجلّ، فهي حضارة في أصل وجودها تتنكر لأصل وجود الخالق.
• شكر المُبدِع
حينما أراد كريستوفور كولومبوس الذهاب إلى الهند فوقع بالخطأ ومن غير تخطيط على هذه الأرض الواسعة الفسيحة المليئة بالخيرات والجمال، فيا ليته سجد لله شكرا، بدلا من أن يعود لبلاده ويأتي بالأسلحة ويبيد السكان الأصليين، وهذه هي الحالة التي بنيت عليها هذه الحضارة، بنيت على التنكرلله عز وجل والابتعاد عن شكره وعلى التوكل عليه.
• تبدد القيم
الثاني: مع غياب الإيمان بالله في حقيقة هذه الحضارة، فإن المبادئ الحقيقية في مجموعها قد أخذت في التبدد وعدم إمكان الاعتماد عليها، ما الذي يدعو الإنسان إلى التمسك بالأخلاق! إن لم يؤمن برب وحساب وآخرة، إذا تنكر الإنسان لهذه المحقائق تنكر لجملة من المبادئ الإنسانية والفطرية، فلا عفة ولا كرامة وحين تتكلم عن زهد النفس أو ابتعاد عن المادة أو عفة فستعتبر أنسانا شاذا وغريبا تأتي بما ليس له أصل وليس له حقيقة.
• عبادة القّوة
الثالث: بدلا من عبادة رب خالق رحيم، أصبحت العبادة توجه إلى المال والقدرة والسلطة. القرآن الكريم يقول: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)، الإنسان الذي يتنكر لله الحقيقي فإنه بلا شك يتعبد لإله آخر، هذا الإله الذي تتعبده الحضارة الغربية هو القوة والسلطة والمال والسلاح.
وحين لا يكون لديك هذا فلن تكون لك كرامة ولن تستحق الحياة وربما تستحق أن تتبرع لك بعض المؤسسات ويتلطف عليك الآخرون. أما أن تكون إنسانا ذا كرامة وتعيش مثلك مثل اللآخرين لا، بل تعيش في ظنك وضياع، وربما يعتبر هذا حالة طبيعية بالنسبة لمن يجعل المادة هي الإله الذي يعبده.
• مساواة عوراء
الرابع: هذه المساواة التي بنيت عليها الحضارة الغربية فيما بينها، مع الأسف الشديد، بسبب حب المال والقدرة والجاه هذه الحضارة
تمارس على الأمم الأخرى التسلط ونهب الخيرات، وتمارس حالة من الظلم والتعدي والجور لم يمر مثلها في التاريخ، هذه الحضارة هي من جهة تنظر بعين المساواة، ومن جهة بأخرى تنظر بعين عمياء عن الحقائق.
• تلوّث المنبع
كما ذكرت، فإن كل ما كان منبعه من جهة زائفة نتنة قبيحة، فإن مصبه يكون إلى جهة قبيحة نتنة زائفة، الخلاصة، هي عوراء لا يمكن أن تحبل إلا بأعور دجال، لا يمكن أن ينشأ عن هذه الحضارة التي أصولها وجذورها لا يعتمد على أسس فطرية وحقيقية إلا حالة من العور، ومن الدجل، فهي لا ترى إلا بعين واحدة ولا تنظر إلا بالمصلحة المادية ولا تقيس الأشياء إلا بمقياسها المادي، ومن جهة أخرى هي تمارس هذا التلون والكذب الدجل والكذب والتزييف، وتدعي حالة من والكمال الذي لا تمتلكه، وتزعم لنفسها حالة من الرفعة وحقوق الإنسان، وهي لا تحققها ولا يمكن أن تحققها.
بل إنها لا تستطيع علاج الأمراض التي أصيبت بها، هم يعيشون حالة من الإنحلال الناشئ عن تصورهم للحرية، هم يعيشون ورطة لا يجدون وسيلة للتخلص من حالة الإنحلال، بل حتى الكنائس تسايره وتضطر لمماشاته والاعتراف به بل وتمحو ما يعارضه من الأناجيل ويعيق الانطلاق في الحالة الإباحية.
ولذلك هناك تصاغر وضعف وانحلال للقيم والمبادئ الإنسانية أمام حالة التجبر والتملك والتمتع بملاذ الحياة.
ولهذا فإني أتمنى أن يكون لدينا وعي بحقيقة هذه الحضارة قبل أن نقع في براثن الأمراض الإنسانية والروحية لهذه الحضارة التي أصيبت بها وتعاني منها اليوم وتريد أن تتخلص من مشاكلها ولكن لا تستطيع أن تتخلص ولا سبيل لها لأنها تنكرت للمبادئ الأساسية وقامت على أسس ومبادئ وقيم غير سليمة.
نبارك لكم رحمة الله التي أوصلتنا إلى هذه المواسم الشريفة وبلوغ شهر شعبان، شهر الاستغفار والصوم والمناجاة والخيرات، ومنها التصدق، شهر الصلاة الشجرية الواردة في هذا الشهر، شهر الرسول الأعظم (ص).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق