الوسطية لغةً: تعرض أرباب المعاجم للفظ الوسطية فعرفوها بأنها: مأخوذة من مادة ( وسط ).يقول ابن فارس: "الواو والسين والطاء بناء صحيح يدل على العَدل و النِّصف، وأعدل الشيء : أوسطه ووسطه" (المقاييس: 1091 ط: دار الفكر).وقال الدامغاني: "العدل: الوسط بعينه" (الوجوه والنظائر في القرآن الكريم: 488 ط: دار المعرفة).وقال الفيروزآبادي: "الوسط من كل شيء أعدله. قال الله تعالى : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}; أي عدولاً خياراً" (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز: 5 / 209 ط).وقال الرَّاغب: "وسط الشيء: ما لـه طرفان متساويا القدر، ويقال ذلك في الكمية المتصلة كالجسم الواحد إذا قلت وَسَطُهُ صُلْبُ، وضربت وسَطَ رأسه بفتح السين، و يقال بسكون السين في الكمية المنفصلة، كشيء يفصل بين جسمين نحو: وسط القوم.والوسط تارة يقال: فيما لـه طرفان مذمومان، يقال هذا أوسطهم حسباً إذا كان في واسطة قومه وأرفعهم محلاً، وكالجود الذي هو بين البخل والسرف.وتارة يقال: فيما لـه طرف محمود وآخر مذموم كالخير والشر أو الجودة والرداءة، تقول من هذا المعنى: شيء وسط: أي بين الجيد والرديء.ويقال: فلان وسط في قومه، إذا كان أوسطهم نسباً وأرفعهم مجداً. وفي صفة نبينا (ص)، أنه كان من أوسط قومه: أي خيارهم. فوسط الوادي: خير مكان فيه. وكذلك كان نبينا (ص) من خير مكان في نسب العرب، وأمته أيضاً كذلك جعلت وسطاً أي خياراً" (معجم مفردات ألفاظ القرآن: ( 559 – 560 ) ط: دار الفكر).
نقاش حول المفهوم:يحقّ لسائل أن يسأل: هل الوسطية مفهوم مشكك أم أصيل؟ وذلك لأن الكل يدعي وصلاً بليلى الوسطية، وهي لا تقرّ لهم بذاكا! فأين الخلل يا ترى؟لابد لنا هنا من أن نلقي بعض الإضاءات حول مفهوم الوسطية، لأن التوسع الحاصل في تطبيق مفاهيمها، والتداخل بين مصاديقها، والتشابه بين مرادفاتها اللفظية والمعنوية، سبّب خلطاً كبيراً في المفاهيم، بحيث أمكن لكل من شاء أن يصف جهة أو طريقة أو فكرة أو منهج ما بالوسطية، دون وضوح جهة الوسطية وتحققها في هذه الفكرة أو المنهج أو الجهة، فقد يعتبر البعض أن المرونة بدون ضوابط هي وسطية اجتماعية ولو أدّى ذلك لقبول الظلم والرضوخ له، والالتقاط العشوائي والخلط المزاجي انفتاحاً فكرياً ووسطية منهجية في المنهج البحثي مثلاً ويخلط بين الأمرين، مع ما يوجد من اختلاف في المفهوم والمورد والدلالة والحالة مثلاً.وهنا أقتبس ما يفيد ضرورة التمييز بين المعاني الشائعة والدارجة للوسطية، من محاضرة الباحث أحمد توفيق وزير الأوقاف المغربي فقال: "ذهب البروفيسور فضل الرحمن، رحمه الله، إلى القول بأن الوسطية في الإسلام ليست طريقاً للاختيار بين عدة طرق، بل هي الطريق الأوحد، لأنها طريق الوقوف مع الحق الذي نجتهد باستمرار في الوصول إليه في كل الأمور، وليست الوقوف في نقطة بين الحق والباطل، فالعدل ليس عملا حيادياً بل هو التزام وميل إلى جهة الحق، كما يقول ابن عربي في (الفتوحات)، ومادة عَدَلَ في العربية تؤيد ذلك، وبهذا المعنى يمكن أن يقال اليوم عن الإسلام إنه دين الميزان، كما نقول إنه دين الوسطية والاعتدال، وإنما دُعي الإنسان إلى استعمال هذا الميزان لسبب ولغاية".فمع وجود النسبية في الوسطية الناتجة من كون أطرافها متغيرة وليست ثابتة، ولكونها عادة بين حدين أو طرفين، ولكن هذا لا ينفي التحيّز في مستوى العقيدة والقيم، فلا بد من التحيّز في هذا المستوى، ولكنه ليس تحيزاً مسبقاً واعتباطياً، بل تحيز لمعطيات ونتائج صحيحة وسليمة نتجت عن تطبيق منهج وسطي يمازج بين النص والعقل في استقراء النصوص وفهم الدلالات، أشار إليه الخالق وبينّه ووضحه في محكم آياته وبراهين دلالاته حتى على مستوى الحقائق والمعطيات الكونية.لقد نطقت الآيات الكريمة صادحة قاطعة في هذا الصدد، فقالت في مجال العقيدة: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 85:سورة آل عمران. فجعلت الإسلام الدين المقبول دون سواه، وعنصر الربح الأكيد.كما أكدت في مجال جوهرية القيم والالتزام بها: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} 58:سورة النساء. فجعلت الوفاء وأداء الأمانة والعدل قيماً إنسانية، تطبق على بني البشر عموماً دون تمييز بينهم، أو تفريغ لهذه القيم من محتواها الحقيقي.فالوسطية الحقيقية إذن إنما تكون في الآليات والمناهج والأدوات، أي في المستويات والمراحل السابقة للمنتج اليقيني والعقائدي النهائي المتمثل في منظومة العقيدة والقيم. مما ينعكس بدوره سلوكاً معتدلاً موفقاً يضع الأمور في نصابها وإطارها المقتضي والمناسب لها، بين الشدة واللين، بين الانفتاح المحمود وبين الالتقاط المذموم.لقد ارتبطت الوسطية في جوهرها وماهيتها بأنها وظيفة وأداة ومنهج، وبعبارة أخرى مقدمات منضبطة ومتوازنة تفضي مراعاتها إلى معطيات سليمة وصائبة، لأنها لم تجنح للإقصاء المبرمج أو المسبق في معالجة المعطيات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} 8:سورة المائدة، أو التحيّز لغير حكم العقل والشرع والوجدان في المنهج، والإتقان والتوافق والاعتدال في السلوك والطرح {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} 125:سورة النحل.إذن فليس هناك من موضوع للوسطية بين الحق والباطل، إذ كيف نكون وسطاً بين الحق والباطل، أو بين الخير والشر، مع اعتقادنا بوجود الحق أو الخير في هذه الجهة، أو وجود الباطل والشر في الجهة الأخرى! حتى مع تحقق نسبية الباطل والحق موضوعياً حسب الموقف والجهة وتعدد القناعات والآراء.
إشكالية الوسطية؟وتكمن إشكالية الوسطية في: أهمية تحديد طرفي الموضوع حتى يمكن تحديد الوسط فيهما؟ وكذلك أهمية معرفة منشأ الوسطية المبتغاة ومقياسها؟ فهل هي وسطية زمنية لأن طرفيها مختلفان زماناً؟ أم وسطية موضوعية لكونها تسلك دوراً وظيفياً بين فئتين وشريحتين وفكرتين؟ فكما هو واضح أن الوسطية هي نقطة وسط بين طرفين أو حدين، مهما اختلفت مناشيء هذين الحدين أو نوعيتهما؟كي أقرب الفكرة، لنقرأ معاً الآية الشريفة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} 143:سورة البقرةفالآية تبين بوضوح أن هناك جعلاً إلهياً مؤطرٌ باستحقاق وظيفي، فوسطية الأمة جاءت كعلة فاعلة للشهادة على الأمم، واستحقاق عملي للقيام بالدور الرسالي المنوط بها كوسيط بين رسالة الرسول والبشرية جمعاء، وكعلة قابلة لشهادة الرسول وقيمومته وناظريته على الأمة، ثمّ بينت أحد مفردات الوسطية الفعلية وهي رمزية في شكلها عميقة في مضمونها، باختيار قبلة جديدة، ليست تابعة لقبلة إحدى الديانات السابقة، كبيان لاستقلالية وكمال هذا الدين، وفارز جوهري لعنصر الإيمان أو قابلية الردة بمعانيها الأعمق.وهذا يبين وبوضوح أن الوسطية كما هي ظاهرة بمعناها البسيط والقريب والمباشر، إلا إنها في غاية التعقيد عندما نتفحص مصاديقها، لأننا بحاجة حينئذٍ إلى التمعن في شروطها وضوابطها ولوازمها، وهو ما سنعرض له في فقرة أخرى لاحقاً في هذا المقال.إن من أبرز أسباب التداخل والاضطراب في تحديد مفهوم الوسطية، هو تنوع مصاديقها وتشعباتها على المستوى الفكري والثقافي، وكذلك على المستوى الاجتماعي، سلوكاً وقيماً وقناعات، ولذلك تعددت مفاهيم الوسطية فكانت أداة للمعرفة ومنهجاً للبحث وميزة فارقة للعقيدة والسلوك، فالوسطية سماحة في التعامل، واعتدال في الطرح، وموضوعية في البحث، ورفق ومداراة في الأخلاق والتعامل مع الآخرين، ويقيناَ راسخاً بالتعايش والتوافق بين الرأي والرأي الآخر، يقوم على أساس التبليغ والدعوة والتبشير، وليس على القمع والإقصاء والإبادة والتنفير.وقد يرد سؤال جوهري في هذه الحالة وهو: هل يمكن للإنسان مع كل هذه التجاذبات المختلفة في حياته، أن يدرك موقع الوسطية ومكانها، وهو الذي تتجاذبه الأهواء والآراء؟والجواب: نعم، فكما أن الإنسان يستمد من الله سبحانه وتعالى الهداية التي تضيء له درب الفلاح والنجاح، فيقرأ في كل صلاة في فاتحة الكتاب: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} 6و7:سورة الفاتحة، فإن القرآن يبين وبوضوح أيضاً وجود هذه القابلية في الإدراك والتمييز بين الحق والباطل، بين الشكر وبين الكفر، فيقول: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} 3:سورة الإنسان، مما يعني وجود الهداية المسبقة فعلاً من الله لعباده، وأن حقيقة الدعاء بالهداية هو في التوفيق للالتزام بها، والتمسك بمرشداتها ومحدداتها، وهي: القرآن الكريم والعترة الهادية (ع).
أهمية الوسطية وضرورتها:ما يهمنا في هذا البحث، وقد عنوِّن بعنوان (الوسطية خيار أم معيار)، هو أن ندرك مدى أهمية وضرورة الوسطية كوظيفة ومنهج وأداة تحليل وطريقة عيش وسلوك.ولعل أبرز ما يبين أهمية الوسطية، كونها مفهوم وظيفي أساسي في التفكير والسلوك البشري، بمعنى أنها بمثابة المقدمة والبوابة الرئيسية لغيرها من المفاهيم والواجبات.وهذا يعني أن الإنسان لن يتمكن من نيل كمال المعرفة أو السلوك إلا بها، وبالتالي فإن إحرازها والتعلق بها فكراً وسلوكاً، هو الطريق المفضي للكمال الإنساني والرقي البشري، ومن هنا تنبع أهمية وضرورة الوسطية في حياة ووجدان الأمة والفرد.
لوازم الوسطية:
1- الأفضلية:فقد جاءت الآيات الكريمة والروايات الشريفة طافحة ناطقة بعلو مكانة الوسطية، وكذلك كونها معيار للخير والكمال والصواب، وهذا يعني أن الوسطية تكون في لزوم أفضلية هذا المنهج أو السلوك على غيره من المناهج والسلوكيات، فما كان مورداً للتناقص أو التناقض، إهمالاً تفريطاً أو غلواً وتنطعاً، فإن هذا يوضح بعده عن الوسطية كمفهوم أو مصداق.
2- البينية:طبيعة الوسطية وماهيتها ومضمونها هو: كونها واقعة بين طرفين أو حدين كما ذكرنا سابقاً في مواضع عديدة من هذا المقال.وبالتالي فإن الوسطية يجب أن تكون عصية على التصنيف، بل تكون هي فارزته الموضوعية، بحيث يكون من خرج عنها هو من خرج عن خطة الإنصاف والاعتدال، إلى خطة الإفراط أو التفريط.
3- التوافق مع العقل والشرع:لأن العقل والشرع هما المرشدان لمضمونها، والمحددان لحقائقها، بل أن الوسطية هي التوفيق الأمثل لهذين العنصرين الأساسيين في المعرفة والسلوك الإنساني، وبدونهما تفرّغ الوسطية من محتواها، لأنها تفقد المحددات الموضوعية السليمة لها، وتعبر عن حالة من التخبط وفقدان الهوية وانسحاق الذات أمام الآخر، وتعلن خوائها وعجزها التام عن امتلاك الحقيقة!
خاتمة:من هنا نخلص إلى نتيجة مهمة نختم بها مقالنا فنقول: أن الوسطية هي معيار أساس لمنهج المعرفة وجوهر السلوك، وليست خياراً مترفاً ضمن رزمة خيارات أخرى، بل تكاد أن تكون قدراً نهائياً لازم لحقيقة رسالة الدين الإسلامي، الذي طوّق أعناق الأمة أفراداً وجماعات، كدين يجب الوفاء به تجاه من أنعم بالهداية والاستقامة، وأبرز لها علامات الهدى ومنارات البصيرة، كي تنال شرف شهادة الرسول الأكرم (ص) عليها كأمة رسالية، ذات هدف ورسالة أنيطت بها تحديداً، بسبب وسطيتها الوظيفية بين الرسول وباقي الأمم والمجتمعات، مما يلقي عبئاً ثقيلاً على كل مسلم ومسلم، أن يعكس هذه الحقيقة سلوكاً ومعرفة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق