الثلاثاء، 16 سبتمبر 2014

إصلاح التعليم أم تطويره؟

انشغلنا في الأسبوع الماضي بقضية الغلاف وسحب الكتاب! وبعد أن حط الغبار، نعود لهواجسنا كمواطنين: كيف نرتقي بالتعليم في بلادنا؟ السؤال ضخم ومفتوح ويبدو معقداً، لكنه يتطلب جرأة في الإجابة، أو تفكيرا خارج الصندوق أو خارج المألوف والمعتاد.

وفي أحيان كثيرة، فالعودة للمألوف فيها جرأة تتجاوز كل الصناديق داخلاً وخارجاً، كما سيأتي في الختام، لكن قبل ذلك فمنذ زمن أخذني فضولي لتتبع نظم التعليم في بلدان بعيدة عنا وعن طبائعنا لكنها حققت نجاحات مشهودة ارتكازاً على عنصرها البشري، الذي تعلم في مدارسها، ولن أستعرض هنا نظم التعليم على تنوعها، لكن أشير لبعضها فإن لم تجدها مألوفة فثمة أرتال من البحوث والأخبار عنها يزخر بها العم «جوجل»، ومن هذه البلدان فنلندا، ورغم أنها ليست بالضرورة البلد الأعلى انفاقاً على التعليم، لكن: يومها التعليمي طويل وعدد أيام الدراسة في العام من بين الأعلى، وتحصيل طلابهم من بين الأفضل، والكفاءة الداخلية لمنظومة التعليم العام من بين الأكثر تميزاً في العالم إن لم يكن الأفضل حسب تقارير وتصنيفات حديثة. وفي حالتنا، فعامنا الدراسي من بين الأقل من حيث عدد الأيام الدراسية، ويبدو أن طلبتنا ومعلمينا لديهم شغف بالعطل والاجازات، ولعل مردّ ذلك الافتقار للحافز، وهنا يكمن التحدي؛ إذ كيف يمكن المواءمة بين زيادة الساعات والأيام الدراسية وحفز الجميع لقبول ذلك بشغف؟!

لتحقيق ذلك نحن بحاجة للتخطيط التراجعي، أي التحرك من الهدف ثم الرجوع للتعرف على متطلباته وشرائطه لا أن نضع اشتراطات معيقة تكمم الهدف وتنهكه، وفوق ذلك ونتيجة للتصلب الإداري نجدنا غرقى في بركة الدوامة اليومية: كراسي وماصات ومكيفات وكتب وحركة مدرسين واستلام مدارس وصيانة ونقل. ولا يملك أحد القول إن هذه التفاصيل ليست مهمة لكنها ليست هي فقط المهمة، فالضحية التي ما فتئت تراوح هي العملية التعليمية برمتها، والدليل مخرجات التعليم العام التي اضطرت منظومة التعليم العالي أن تضع أمامها متاريس «اختبارات قياس» وبرزخ «السنة التحضيرية للجامعات والكليات»، لنرى كيف أن مخرجات التعليم العام لدينا تعاني الأمرين حقيقة وليس مجازاً، فيما نُكرر لدهور أن تقدمنا رهن بمواردنا البشرية، وقبل أن يذوي صدى كلماتنا وخطبنا نعاود ممارسة المعتاد بأن نربت على نظامنا التعليمي ونمسح غبش نظارته ولا نتجاوز ذلك! في حين أن نظامنا التعليمي بحاجة لإعادة هيكلة تخرجه من صندوقه فتطوره دون إبطاء، إذ أن العجلة تدور وتفرض توقيتها هي؛ ففي كل سنة تتخرج دفعة من الثانوية العامة، وفي كل سنة يرتقي التلاميذ صفاً، ومع ذلك فليس هناك من هو موقن بأننا نتحرك نحو الأفضل تعليمياً وبخطوات ثابتة تحدث فرقاً إيجابياً للوطن ولمواطنيه.

وأستدرك بالقول إن هناك من يرى أن لدينا الأفضل أو من بين الأفضل، تلك وجهة نظر، أما ما يتطلبه المجتمع والاقتصاد فمواطنون شغوفون بوطنهم يعربون عن حبهم بالإنتاج والانجاز والسعي الحثيث المتحرق لخدمته ورفع شأنه عبر العمل والكدّ والكدح وقدح الذهن والابداع والريادة وعمارة الأرض، وفوق كل ذلك يتشبثون بالوحدة الوطنية وبخيار التعايش والتآلف والسلم الأهلي والتعاضد ومدّ جسور المحبة والتواصل والاحترام المتبادل وبأن المواطنين سواسية ومتساوو القيمة بما لا يسمح بأن يتجاوز أحد القانون، وهذه أمور لن يقوم بها تلميذ مُحبط ولن يحققها إلا مدرس هاشٌ باشٌ يتوقد حباً وحرصاً ومهنيةً!

وهكذا أعود لفنلندا، فالأساس هناك هو الطالب والعناية به، والتنافس مع عائلته في تدليله حتى تصبح المدرسة مكانه المفضل، وحتى تتفتح خلايا مخه لقبول المعلومات المفيدة والمقرر الذي يرتكز على الاستخلاص والاستنتاج، وهذه أنشطة تتطلب تلميذاً أتى متحرقاً لم يدُفع دفعاً للحضور للمدرسة! وفي فنلندا، يتمتع المدرس بأعلى دخل، فأن تصبح مدرساً هناك هو في سنام السلم الوظيفي والاجتماعي. وليس هذا بكثير على من نريده أن يهتم بأبنائنا، إذ علينا - بداهةً - أن نهتم به، وإلا فسيأتي لتأدية عمله إما مكسوراً أو مقهوراً، وسيظهر ذلك على منتجاته وهم التلاميذ، أبناؤنا.

وإن كنا جادين - وأحسبنا كذلك - في إعادة هيكلة التعليم في بلدنا الغالي، فالأمر لتحقيق ذلك واضح: تلميذا ومعلما، وجعل بقية الموارد والمعطيات تدور حولهما ليحققا الهدف، أما أخذ الموارد مفككة: مدرسة وكتبا ومكيفات ومقاعد وحركة نقل، فلن تأخذنا بعيداً في تحقيق المطلوب وهو «نحت» مواطن معتد بوطنه متحرق لخدمته ولإعلاء بنيانه.

لكن ماذا عن علاقة المدرس بتلاميذه؟ ما أذكره من أيام دراستي في الأحساء يتمحور في أساتذة عمالقة: عبدالله السويلم ومحمد الخيال وحسن الحليبي، أهم ما أذكره الطاقة الإيجابية والحنو، فكان رقي تربيتهم ينافس غزير علمهم، رحم الله من مات وبارك في عمر من بقي، فقد كان حضور دروسهم متعة بقدر ما كانت فائدة.

ليست هناك تعليقات: