الجمعة، 22 أغسطس 2014

البشارة لمن ؟

سؤالٌ يطرحه كلُّ إنسان على نفسه دائماً ؛ وبطرقٍ مختلفةٍ ؛ لأن الإنسانَ محبٌّ لنفسه ، وهو دائماً بالتالي يبحث عن الخير ، ويرجو أن يُدفع عنه الضرر ؛ غير أنه قد يصيب وقد يخطئ .
ونحن - كمسلمين - منَّ اللهُ سبحانه وتعالى علينا بكتاب { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ } [فصلت / 42] ، { يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء/ 9] . ولذلك ، ينبغي أن نتشبث به ، وبما صح عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من سنة مطهرة ، وأن نعتصم بالحبل المتين الذي أُمرنا أن نتمسك به ؛ في ما تواتر نقله عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في أمره بالتمسك بالكتاب من جهة ، والعترة من جهة أخرى ؛ باعتبار أن العترة هم حملة القرآن الكريم شكلاً ومضموناً ، والوارثون – أيضاً - لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشكلٍ كاملٍ([1]).

دواعي الحديث :

يدعوني إلى ذلك ثلاثة دواعٍ :
الداعي الأول : هو تطويق حالات الإرهاب الديني ، أو الذي يمارس باسم الدين في مثل هذه الأيام ؛ والذي أصبح آفةً محليةً وإقليميةً ؛ بل للأسف الشديد عالميةً للأسف الشديد .
وكان الأمرُ يهون لو لم يمارس ذلك باسم الدين ؛ فإنه إذا مورس باسم الدين يعني أن الأمر سيتفاقم في نتائجه ، وستكون تداعياته أشد مما يظنه كثيرٌ من الناس .

اجتثاث جذور الإرهاب

حينما ينبعث العقلاءُ ؛ ونسأل الله عز وجل أن نكون وإياكم منهم ، إلى محاربة مثل هذه الظواهر ، من الخطأ أن نحصرها في مواجهة تنظيم ما ؛ في يوم ما كان يسمى بـ( الأفغان العرب ) ، بعدئذٍ صار اسمه ( القاعدة ) ، أخيراً يسمى ( داعش ) . المسألة أخطر من هذا التنظيم الذي يحمل هذا الاسم أو ذاك الاسم ، المسألة ترتبط بالفكرة التي أنتجت لنا مثل هذه الظواهر الشاذة .
ولذلك ، نحتاج إلى أن نبحث عما من شأنه أن يقتلع هذه الممارسات باقتلاع جذورها . وهذه هي الحصافة وهي الحكمة . فالطبيب إذا أراد أن يعالج المريض ليس من الصواب أن يرفع عنه الحمى ؛ دون أن يعرف ما الذي تسببت في الحمى ، فإن هذه الحمى متى ما وُجد سببها يمكن أن تتكرر اليوم أو غداً .
الداعي الثاني : رفع الخمول ؛ وهو : الكسل ، والهوان ، الاستكانة .
لأن هناك من خارج الأمة مَن يريد أن يزرع في هذه الأمة أنكم أمةٌ متخلفةٌ ، وليس لكم إلا أن تسلكوا الدرب الذي سلكناه ، فنحن الذين نصنع الطائرات ! نحن الذين تقدمنا ! نحن أصحاب المدنية ! أما أنتم ، فهذا هو نتاجكم .
وبالتالي ، يجب أن نقلب - نحن - المعادلة ؛ لنكشف له أن الله سبحانه وتعالى ادخر لنا ما من شأنه أن ينتقل بنا من الوضع السيئ إلى الحسن ، ومن الحسن إلى الأحسن .

اننتصارا تموز 2006 ، 2014 م

ولعل ما شاهدناه في الشهر الماضي ؛ ولا يزال الأمر لم ينته ، وما حصل في 2006 هو شكلٌ من أشكال البذور التي هي موجودة في الأمة ؛ لتقول ؛ لهذا الذي يريد أن يزيف الواقع ، أن الأمة ، على خلاف ما تقولون . تملك هذه الأمة أن تقول للباطل أنت باطل ، وأننا أصحاب حق ؛ مهما كان الثمنُ غالياً . وليس لأصحاب الحق أن يتنازلوا عن حقهم إذا وجدوا أن في مطالبتهم بهذا الحق ثمناً سيُدفع .
المريض يمكن من نفسه بين يدي الطبيب أن يشرح بطنه وظهره ، بل حتى مخه ؛ إذا أراد أن يستأصل مرضاً . أما إذا تخوف من الألم ، وتخوف من الجراحة ، وتخوف من دفع الثمن ؛ فإن الأمر يعني أنه سيبقى مريضاً كما كان .
النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما حصلت الانتكاسة في أحد ، وقد تحدثنا عن ذلك في الأسبوع الماضي ، أمره الله عز وجل أن يجند المسلمين ؛ بما فيهم من أصيب بجراح شديدة ، أن يلحقوا بالعدو([2])؛ حتى لا يظن العدوُّ أنه استطاع أن ينال من المسلمين ، فيشيع ذلك في أوساط الناس ويزداد المسلمون هواناً وضعفاً .
ما حصل في 2006 م ، وما حصل في هذه الأيام في غزة ؛ من عمل مبارك ، عمل رباني ، غيَّر المعادلةَ لتبين للأمة أن ثمة نقاطاً من القوة يملكونها ، وعليهم أن يحرصوا عليها .
وهنا يأتي دورُ العدو ؛ الذي مارس غدراً ومكراً بعد الانتصار الأول ، ليمارس مكراً وغدراً هذه الأيام ؛ حتى يُرجع هذه الأمةَ التي ابتليت بشكلٍ من أشكال الضعف إلى ما كانت عليه .

الداعي الثالث : هو ضرورة أن نبذر نبتات وبذرات الصلاح والإصلاح في هذه الأمة

فإن هذه الأمةَ ما لم تعمل على هذا المعنى يعني أننا سنبقي أسرى بيد المنحرفين من هذه الجهة والمنحرفين من جهة أخرى ، سواء تمثلت في هذا الشكل أو ذاك الشكل ، في هذا التنظيم أو ذاك التنظيم ، هذا التوجه أو ذاك التوجه ، هذا العنوان أو ذاك العنوان . قد تختلف العناوين لكن يبقى الخلل والإشكال واحداً .
والنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حينما شبّه عترته الشريفة بـ( سفينة نوح )([3]). هو أراد أن ينتشلنا من هذا الوضع الذي ابتليت الأمة فيه ، جعلنا الله وإياكم من ممن يستحقون هذه البشارة التي جاءت في قول الله عز وجل { وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ } [الزمر: 17، 18] .
سواء أردنا أن نقف عند ما أشارت الآية إليه من مضامين من أولها لننتهي إلى آخرها ، أو أن نقرأ الآية على مستوى التفسير من آخرها لنرجع إلى أولها ، النتيجة واحدة ، النتيجة هي أن هناك فريقين من الناس :
فريق صنفوا أنفسهم من أهل الحق ، والعاملين بالحق قولا وفعلا . حرصوا على أن يتعاملوا مع كل شيء بميزان الحق يعطوا كل ذي حق حقه ، بدءا من الخالق وانتهاء بأصغر مخلوق ، وبين هذا وذاك أنفسهم .
هل يسوغ لك إذا أردت أن تكون من أهل الألباب ومن أولي الألباب ، وإذا أردت أن تسلك طريق الهداية أن تخضع لغير الله عز وجل ؛ ممن لا يستحق أن يُخضع له ؟
القرآن يجيبك : لا !

من هم الطاغوت ؟

وحينما يقول القرآن الكريم { وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا } .
لا يريد أن يقول إن هذا الطاغوت هو هبل فقط ، أو اللات فقط ، أو العزى فقط . كل شخص ، وكل جهة ، وكل عنوان ، يسحبك من التوجه إلى الله إلى التوجه إليه ، بحيث إذا تصادمت إرادةُ الله مع إرادة هذه الجهة أو تلك خضعتَ لهذه الجهة على حساب إرادة الله عز وجل ، فهذا طاغوت يُعبد من دون الله . سواء كان شيخاً ، عالماً ، طالباً ، شيخ قبيلة ، زعيم دولة ، زعيم أسرة ، منطقة . أي عنوان من العناوين متى ما وجدت نفسك استجبتَ له على حساب الله عز وجل ، فإن هذا طاغوتٌ يعبد من دون الله عز وجل .
والقرآن الكريم يوسع من دائرة الطاغوت يقول أن هناك فئة من الناس { اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } [الفرقان / 43] . ونحن نعرف حينما نسبر تاريخ الأمم لا نجد أن أحداً يعتقد في نفسه أنه إله ، وفي الوقت نفسه يعتقد أنه عبد ، يعني يقول : أنا إله ، وأنا عبد .
لا ، الإنسان إنما يصنف نفسه عبداً لجهة أخرى ، أو قد يصنف نفسه ضمن الملاحدة .
لكن في الحقيقة هؤلاء الملاحدة أرادوا ألا يعبدوا الله فعبدوا أنفسهم ، اتخذوا أهواءهم آلهة تعبد من دون الله .
هذا نسميه طاغوت .
فالخضوع الشامل والكامل إنما يكون لله عز وجل وحده ، وليس لغير الله سبحانه وتعالى . فإذن ، { الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا } ؛ أي : أن يخضعوا لها بأي شكل من أشكال الخضوع المضاد للخضوع لله عز وجل . يعني أن الله عز وجل الذي إنما أرسل الرسل من أجل أن يُطاعوا ؛ لأن حق الطاعة مكفول له ، هو الذي اختار لك أن تأتي إلى هذه الدنيا بغير اختيار ، ويخرجك هذه الدنيا بغير اختيار . فالحكم والأمر له { مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ } [الروم/ 4] . غير الله عز وجل لا يملك هذا تكويناً ، وبالتالي لا يملك حقَّ التشريع .
ولذلك ، يعيب الله عز وجل على أولئك الذين ينسبون إليه بعض الأحكام ، دون أن تكون قد صدرت منه ؛ فيقول عز وجل { آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ } [يونس/ 59] . حق التشريع ، حق الأمر والنهي الذي يُلزِم العبادَ بأن يلتزموه ، هذا حق مكفول له سبحانه وتعالى .
فإذن ، { الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ } . هذه بيئة أولى ؛ يجب أن يوفرها الإنسان إذا أراد أن ينال البشارة ؛ وسنشير إلى طريقها .
فإذن ، اجتناب الطاغوت أن تعبد . لا يكفي هذا ، لأن قد يتمرد الإنسان على الطواغيت ، لكن قد يتمرد أيضاً على الله سبحانه وتعالى . المطلوب هو أن نتمرد على الطاغوت وهو كل ما عدا الله عز وجل بنحو الضدية والندية ، لكن في الوقت نفسه ، { وَأَنَابُوْا إِلَى اللهِ } ؛ يعني : رجعوا إلى الله .

الحرية لا التفلت !

لا ينبغي أن نولِّد في أنفسنا روحَ الحرية إلى مستوى التمرد ، يجب أن نكون أحراراً في مقابل من شأننا أن نكون أحراراً أمامه . أما اللهُ سبحانه وتعالى فلسنا أمامه إلا عبيداً مطيعين . ليس لأحد أن يقول أنا حر !
لا ، لست حراًّ !
ليس هناك حرٌّ ويرمي نفسه من أعلى البنايات الشاهقة ، ويقول ( أنا حر !! ) . لا ، هذا مجنون ، إذا رمى نفسه الإنسان بهذا المقدار هذا لا يصنف من العقلاء .
ولذلك ، يستغرب الناس إذا انتحر شخص ما ، انتحر ، يعني سلب نفسه حق الحياة ؛ الذي يرى العقلاءُ أن هذا حقٌّ يجب أن يكون مرعياًّ ، لا يكون مبتذلاً ومستهلكاً .
فإذن ، اجتناب الطاغوت أمرٌ أول ، والإنابة إلى الله عز وجل شرطٌ أو بيئة ثانية .
هؤلاء القرآن يقول { لَهُمْ الْبُشْرَى } ؛ أي : الخبر السعيد ، الوعد الصادق بأن يكونوا من أهل السعادة العاجلة والآجلة .
لكن يضع لذلك شرطاً ، فيقول عز وجل { فَبَشِّرْ عِبَادِ } عبادي من هم ؟
{ الَّذِيْنَ اجْتَنَبُوْا الطَّاغُوْتَ وَأَنَابُوْا إِلَى اللهِ } عز وجل .
لكن هؤلاء يتصفون أيضاً بسلسلة من الصفات تجعلهم عباداً لله بحق ، بلغوا مستوى من الرشد ، الرشد التام ؛ وهو أن الله عز وجل منَّ علينا بسلسلة طويلة وعريضة من النعم ؛ منها ما هو أصول ، ومنها ما هو فروع ، منها ما هو مادي ، ومنها ما هو معنوي .
وليست نعمُ الله عز المعنوية أقلَّ قدراً عندك وعندي من نعمه المادية . ولذلك ، نجد أنفسنا مهما بلغنا من المرض نحمد الله عز وجل إذا مرَّ علينا شخص مجنون ؛ سلبه الله عز وجل العقل ، وقد يكون أقوى منك من الناحية البدنية والجسدية ، لكن تقول الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه ، فإن هذا لم ما سُلب العقل سُلب نعمةً خيراً من النعمة التي سلبتَ أنت منها ؛ وهي الصحة عند هذا العضو من البدن أو ذاك العضو من البدن .

لكن متى يكون الإنسان عاقلاً بالمعنى الصحيح ؟

إذا استطاع أن يكسب الهدايةَ من الله ، فيخرج نفسه من الظلمات إلى النور ؛ ليرى الأشياء على ما هي عليه ، ويحكم على الأشياء بما ينبغي أن يُحكم عليها به . فيقول لما هو فوق أنه فوق ، ولما هو تحت أنه تحت ، ولما هو حلال أنه حلال ، ولما هو حرام أنه حرام ، ولما ينبغي أن يفعل أنه كذلك ، ولما لا ينبغي على أنه كذلك .
هل هذه الهداية يكفي فيها أن نكون عقلاء ، يعني نملك قدرة التعقل ؟
الجواب : كلا . لابد مضافاً إلى امتلاكنا قدرة العقل أن نعمل التعقل ضمن الشروط اللازمة لهذا الإعمال والتفعيل ؛ حتى لا يتفلت العقل مثل ما لا تتفلت النفس في طلب الحرية إلى درجة التمرد ، حتى لا يتفلت العقل ؛ فيتبع الهوى دون أن يلتفت إلى ذلك .
ولذلك ، نقول أن الهداية من الله سبحانه وتعالى .

بين أحكام التكوين وأحكام التدوين

ودورنا في التعقل هو طَرق الأبواب السليمة ، والسير في المسارات التي ينبغي أن نسير فيها . يعني : أننا إذا أردنا أن نتعرف على أحكام الله التشريعية فلذلك طرقٌ ومسارات . وإذا أردنا أن نتعرف على أحكام الله التكوينية لذلك طرقٌ ومسارات .
الأحكام التكوينية لم يبعث اللهُ عز وجل الأنبياءَ ليقولوا لنا أن قوانين الفيزياء كذا ، والكيمياء كذا ؛ لأن وقوعنا في الخطأ فيها ليس فيه ضررٌ كبيرٌ ، وإنما أُمِرنا - نحن - أن نعيش التجارب ، نصيب فيها ونخطئ ، نأخذ تجربة هذه الأمة لنضيف إليها وعليها ؛ فننتقل من مرحلة مدنية إلى مرحلة مدنية ، من مرحلة علمية إلى مرحلة علمية أخرى .
لكن في ما يتعلق بأحكام التشريع ؛ والتي يرتبط كثيرٌ منها بالغيب ؛ وهو الذي لا يتأتى لأمثالنا - مهما أوتينا من العقل والتعقل - أن نصل إليه . هنا لابد أن نُعمل ( الاتباع ) ؛ وهي أن نطرق باب الله عز وجل مباشرة ، وهو ما لطف بنا من خلال إرسال الرسل .
فالله عز وجل حينما أرسل الرسلَ فتح لنا باباً من الغيب لا نستطيع مهما اجتمعت عقول البشر على أن يصلوا إلى أن المطلوب في عبادة الله عز وجل في الصباح هو ركعة ، أو ركعتين ، أو ثلاث ركعات ، ليس للناس سبيل .
السبيل في مثل هذه الأمور هو أن ننتظر ما يأتي من عند الله عز وجل فهنا نتبع اتباعاً تاماً ، لكن في أحكام التكوين لا مانع من أن نبتكر ونفكر ونُعمل [ عقولنا ] ؛ حتى لا نخلط بين هذا الباب وذاك الباب .
فالآية ماذا تقول ؟
تقول { فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِيْنَ يَسْتَمِعُوْنَ الْقَوْلَ } .
من سمات المؤمن المنيب إلى الله عز وجل والمتجنب للطاغوت ، طلبه المثابر والمستمر والدائم للحق ، ولأنه يعتقد - بحكم عقله وتعقله - أنه لا يستطيع أن يهيمن على جميع محطات المعرفة ؛ فإنه ينصت لما يقوله الآخرون ، بكل دقة ، بكل عدل ، بكل موضوعية .
{ فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِيْنَ يَسْتَمِعُوْنَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُوْنَ أَحْسَنَهُ } ، يستمعون للمحِقِّين ، ويستمعون للمبطِلِين أيضاً ، لكن لأنهم يملكون العقل اللازم يدركون بطلانَ الباطل ، ويدركون حقانيةَ المحق ؛ فيتبعون المحقَّ على حساب المبطل . لأنكم عباد لله عز وجل تبحثون عن الحق دائماً .
هؤلاء لهم البشرى { فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِيْنَ يَسْتَمِعُوْنَ الْقَوْلَ } ، لكن في مقام الاتباع { فَيَتَّبِعُوْنَ أَحْسَنَهُ } . يستطيعون التمييز لكن في ظل إرشادات الله عز وجل ؛ حتى لا نقع في ما يقع فيه بعض الناس . يقول ( نحن عقلاء ! ) ، وبالتالي : نستطيع أن نحكم على كل شيء !

العاقل متواضع

لا ، لا تستطيع أن تحكم على كلِّ شيءٍ ، والمؤمن لأنه عاقل ، والعاقل كلما ازداد عقلاً ازداد تواضعاً ، والإنسانُ إذا ازداد تواضعاً ينتظر الطرفَ الآخر حتى ينهيَ كلامَه ، ويحكم عليه بأنه صوابٌ أو خطأٌ ، حقٌّ أو باطلٌ .
أما أن يأتي شخصٌ ؛ يقول أنا سأُعمِل عقلي ! ولو سألته عن الآية الفلانية ما المراد بها ؟ قال لم أقرأ التفسير ! وقد تصدى قبل قليل للحكم على مهمات الأمور والمسائل الخطيرة !!
فإذن ، ما الذي يدعو الفقهاء والعلماء إلى أن يبذلوا الجهود الجبارة ، والسنين المتطاولة ، في الحوزات ، والعلماء في الجامعات ، حتى يكتبوا سطراً أو سطرين ، ليختموه بكل تواضع ويقولوا ( والله العالم ) . يأتي هذا الإنسان ؛ الذي يحسب نفسه من العقلاء ، يقول هذه أمور لا نستطيع أن نصدق بها !! وعقولنا لا تؤمن بها !!
هذا خروج من العقلانية ! وإن صنَّف نفسَه ضمن العقلاء .
فالله عز وجل يقول { فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِيْنَ يَسْتَمِعُوْنَ الْقَوْلَ } .
لا يمكن أن نحكم على قولٍ دون أن نستمع إليه فنقرأه قراءةً واعيةً ، سواء كلام المبطلين ، لا نحكم عليه بالبطلان ونحن لا نعرفه ، وكذلك كلام أهل الحق لا نستطيع أن نحكم عليه بأنه كلام حق ما لم نعرفه ولم نقرأه .
ينبغي لنا أن نتعلم ، وأن تفقه . لذلك ، صار طلب العلم في الإسلام من أهم الوظائف ( طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ) ، كما روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )([4]).
فإذن ، { فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ } . هؤلاء هم المهديون والمهتدون ، وهؤلاء هم العقلاء .

النماذج المعاكسة :

نقول هذا لأن هناك نماذج معاكسة ، الحديث عنها يطول لو أردنا أن نخوض .
لكن ما أشرنا إليه من النماذج ؛ النماذج المخزية ، النماذج التي جعلت حركةَ الإسلام تتراجع ليس لعقود من الزمن ، بل - مما يؤسف له - لمئات من السنين . كل هذا الجهد الذي بذله المسلمون من مختلف المذاهب والطوائف ، رجعنا إلى حالة من الانتكاسة ، رجعنا إلى حالة من النكوص ، المعيب ، والمخجل ، والذي لابد للأمة أن تنهض نهوضاً شاملاً وكاملاً ؛ حتى تخلص نفسها من هذا الوباء ومن هذا السرطان .

الحالة الأولى : السلبية

أمير المؤمنين ( صلوات الله وسلامه عليه ) يروى عنه مقولة([5])؛ ذكر بعض مَن نقلها أنه يراد بها من سيأتون في المستقبل ؛ من المتخلفين ، ممن لم يحسن استثمارَ نعم الله عز وجل عنده ، ويمكن أن نطبقها على مَن مضى .
يقول ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) : ما لي أراكم ) بعضهم يقول أنه يتكلم عن أولئك الذين سيأتون في حالة مشابهة للحالة التي نحن فيها ، ويمكن تعميمها  ( ما لي أراكم أشباحاً بلا أرواح ) . يعني بدن صحيح ! لكن شبح جسم خالي من الروح .
ما الفرق بين هذه الجثة الميتة ، وبين هذا الإنسان الحي ؟
الإنسان الحي ينبض بالحياة ، يقوم ، ويقعد ، ويتحرك . لكن هذه الجثة من حيث الشكل قد لا تختلف عن هذا ، لكن الفرق أن هذا له روح . وهذا  ليس له روح .
( ما لي أراكم أشباحاً بلا أرواح ، وأرواحا بلا أشباح ) .
( ونساكاً بلا صلاح ) صحيح أنكم تتعبدون ، لكن في الحقيقة عبادة قشرية . والمطلوب من النسك والمناسك أن تجعل الإنسانَ صالحاً لا أن تجعله قاتلاً ، لا أن تجعله إنساناً تدميرياًّ تفجيرياًّ ، يذبح ، يزهق النفوسَ التي حرَّم اللهُ عز وجل أن تُزهق إلا بالحق ، ثم يزهقها وهو يكبر !!
هذا لا يمكن إلا أن يكون نسكاً بغير صلاح ؛ إن كان نسكاً .
( وتجاراً بلا أرباح ) التجار ينبغي أن يسعوا إلى الربح . لكن إذا كان الإنسانُ متصديا للتجارة وهو لا يربح ، هذا من باب المجاز يسمى أنه التجار .
( وأيقاظاً نوَّماً ) صحيحٌ أنكم من حيث الشكل أيقاظٌ ، لكن في الحقيقة أنتم أهل نوم ؛ لأن هناك فرقاً بين من هو في حالة يقظة وبين من هو حالة في حالة منام ؛ وهو الفاعلية .
يقول ( وشهودا غيباًّ ) هم أيضاً حاضرون ، لكن لا يستشارون ، لا يُراجَعون ، لا يقررون شؤونهم . يستغيثون بالآخرين ؛ لأنهم يدركون أنهم بلا فاعلية .
يقول و ( ناظرةً عمياءً )  أيضاً تملكون القدرة على الإبصار ، لكن عمي لا تحسنون استثمار مثل هذه النعمة الكبرى .
( وسامعةً صماءً ) أيضاً تملكون السمعَ ، لكن ما فائدة هذا السمع إذا لم ننصت فيه للكلام الذي يجب أن نسمعه .
( وناطقةً بكماءَ ) أيضا تتكلمون ، لكن تتكلمون بكلامٍ معيبٍ . مثل ما قرأنا قبل أيام في الصحف ، جماعة يعيبون على المظلوم لما أراد أن ينتصر لحق نفسه ، مثل ما عابوا أولئك في سنة 2006 ، عابوا هؤلاء ! لكن للأسف الشديد هؤلاء أشبه ما يكون بالببغاوات المتبرعين ؛ لأنهم إذا سمعوا مسؤولاً كانوا - من خلال المقال - يرجون أن يرضى يفاجئهم بأن هذا المسؤول لم يكن ليرضي بمثل هذا الكلام ، فتجده في المقال الأول . قال كلاما ثم في المقال الثاني بعد تصريح المسؤول ، فتجده في المقال الأول ثم في المقال الثاني بعد تصريح المسؤول صار له كلام آخر .
إذن ، هذه الحالة . الحالة الأولى حالة السلبية التي تخرج الإنسان من أن يكون من أهل البشارة .

الحالة الثانية ؛ التي أشير إليها هي : الفاعلية الجوفاء ، والمنحرفة .

مثل ما يمارسه هؤلاء . يعني بعض الناس يقول : أين هؤلاء عن قضية فلسطين ؟
أنا أقول : أبعد اللهُ هؤلاء عن قضية فلسطين ؛ لأنهم إن ذهبوا إلى قضية فلسطين سيفسدونها من أولها إلى آخرها ، لأنه ما وضعوا يدهم في مسألة من المسائل إلا وأفسدوها . وابحث عن تاريخهم القريب وتاريخهم البعيد .
يقول الله عز وجل - عن المنافقين ، كما جاء في سورة التوبة – { قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ } [التوبة / 53] .
الإنفاق لكي يكون إنفاقاً مقبولاً وإنفاقاً جيداً لا بد أن يراد به التقرب إلى الله عز وجل . يقول { وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } [التوبة / 54] .
فإذن ، ليس المطلوب أي فاعلية . المطلوب الفاعلية التي تؤدي بنا إلى الله سبحانه وتعالى ؛ حتى نخرج من دائرة عبادة الطاغوت إلى دائرة عبادة الله والإنابة إليه .
وجعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه .
اللهم صل على محمد وآل محمد .
اللهم كن لوليك الحجة ابن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه ، في هذه الساعة ، وفي كل ساعة ، ولياًّ ، وحافظاً ، وقائداً ، وناصراً ، ودليلاً ، وعيناً ؛ حتى تسكنه أرضك طوعاً ، وتمتعه فيها طويلاً .
اللهم ارحم موتانا ، وأغنِ فقرائنا ، وأصلح ما فسد من أمر ديننا ودنيانا .
وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين .

--------------------------------------

([1]) نوادر الأصول في أحاديث الرسول ، الحكيم الترمذي 1/ 258 ، الأصل الخمسون ، في الاعتصام بالكتاب والعترة وبيانها .
([2]) قال الله تعالى { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [آل عمران: 172، 173] .
([3]) بحار الانوار ، ج 23 ، 7 - باب فضائل أهل بيت عليهم السلام والنص عليهم جملة من خبر الثقلين والسفينة وباب حطة وغيرها. وانظر من كتب أهل السنة : كتاب المستدرك على الصحيحين للحاكم النيشابوري ، باب تفسير سورة هود ، ج 2 ، ص  373 ، باب ومناقب أهل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ج 3 ، ص 163 . والكنى والأسماء لمحمد بن أحمد الدولابي ، برقم ( 419 ) ، ج 1 ، ص 232 .
([4]() مستدرك وسائل الشيعة ، كتاب القضاء ، 4 - باب عدم جواز القضاء والافتاء بغير علم بورود الحكم عن المعصومين ( عليهم السلام ) ، الحديث 17 . مشكاة الأنوار في غرر الأخبار للطبرسي ، الفصل الثامن : في العلم والعالم وتعليمه وتعلمه واستعماله . وفي أصول الكافي ، كتاب العلم ، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه ، ولكن ليس فيه ( ومسلمة ) .
[5]) نهج البلاغة ، الخطبة 108 .

ليست هناك تعليقات: