﴿ وقودها الناس.. و الحجارة ﴾
إن أحد أهم عناصر التربية الصحيحة الربانية هي التعريف بالمبدأ و المعاد و تأسيس البناء النفسي و الروحي على تصورهما وإدراكهما والإيمان بهذين الأصلين بشكل صحيح
و للقرآن المفخرة العظمى لتأسيس نظرية عميقة في العلاقات الأسرية تنسجم تماما و العقائد الأولية التي يدعو إليها .
ذكرنا العنصر الاول للعلاقات الاسرية وهو الوقاية من النار .. واذا اردنا ان نختار عبارة تتناسب وعظم المسؤولية والوظيفة الرحمية لا نجد ابلغ من عبارة الوقاية من النار خصوصا حينما نعرف طبيعة النار التي يعرضها لنا القرآن الكريم .
العنصر الثاني:
المؤثر في تحقيق الوظائف الاسرية هو تصحيح الادراكات وتوجيه الميولات
وهذا ما تشعرنا به عبارة " و الحجارة " في قوله ﴿ وقودها الناس والحجارة ﴾ لتوضيح هذا المدعى نسال ما خصوصية هذه الحجارة ؟ و ما المراد منها واين وجه التعريف بالنار حينما نعلم ان ما يسعر النار هو الحجارة؟ بل كيف يكون القاء الحجارة في النار علة لتعذيب الناس ..
هنا لابد من الاشاره إلى مقدمة يتوقف عليها توضيح معنى الحجارة و التعريف بطبيعة النار ،سيما ونحن نعلم أن الآيات ليست في مقام التخويف والترهيب من النار فقط وانما هي تكون بهذا التصوير نظرية أسرية وتحدد الوظائف العائلية .
علماء الاخلاق - المتاخرون منهم - لهم نظرية في علم التربية وهي ما تسمى بنظرية "الربط" يقولون بان الإنسان حينما يحب شيئا ويتعلق به تعلقًا قويًا وينجذب إليه فإنه يربط نفسه به حتى يصبح ذلك الشيء جزءً من ذاته أو هو ذاته ومعنى ذلك ان الممكن يتحول في وجوده وصيرورته إلى الموجود الذي يرتبط به وينشد إليه اما في الفلسفة الاسلامية والتي يبحث فيها عن تصورات الانسان وإدراكاته فهناك نظرية تشابه إلى حد بعيد هذه النظرية وهو ما يسمى باتحاد العالم والمعلوم و الفاهم و المفهوم .
المهم هنا حديث العرفاء وهو القول باتحاد المتعلق و المتعلق العرفاء يبنون :
اولا : على ان الانسان وجوده رابط ليس مستقلا لا في اصل وجوده و لا في استمراره وبقائه، ولا حتى في شؤونه . أي أن الانسان لا يفرغ في حال من حالاته ولا يخلو من التعلق والارتباط بالله. ولكنه قد يعي هذه الحقيقه وقد يشغل قلبه بامور يتوهم انها يحبها .
ثانيا :ان الانسان انما وجد في هذا الدار ليصل إلى مرحلة الارتباط الوثيق بالله بانتخابه الحر وبشكل واع . وهو ما يسمى بمقام العشق فان العاشق في بادئ امره يجد نفسه يميل إلى معشوقه وينجذب إليه ولا تطمئن نفسه الا بذكره و في نفس والوقت يضطرب عند ذكره ﴿ الا بذكر الله تطمئن القلوب ﴾ ﴿ الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ﴾ واذا ماطويت له جميع مقدمات التعلق وصل إلى مقام الاندكاك والانصراف الكامل للحضرةالالهية (الهي هب لي كمال الانقطاع اليك.... فتصل إلى معدن العظمة وتصير ارواحنا معلقة بعز قدسك) فيخترق قبله حجابا اثر حجاب حين ذاك يغفل ذاته ولا يرى في قلبه الا جمال الحضرة الالهية و جلالها .. يقول العارف الفارسي " يا حافظ ... انت الحجاب فارفع نفسك من البين .."
حافظ خدت حجاب خد از ميان برخيز
هنا يصل إلى مقام الذوبان في الله ولايرى نفسه الا موجة من بحار اللطف الالهي فيجد الاتصال بالله كما تتصل امواج البحار بالبحار نفسها . هذا اذا تعلق بالله .
نفس الحال إذا تعلق الانسان ومال إلى وجود آخر فانه يتحد معه اتحادا وهميا أي يتوهم ان ذلك الشيء الذي تعلق به هو ذاته فيعطيه كل ما يعطي ذاته من حقوق واحكام.
والشواهد الشرعية من الايات والروايات تساعد على هذه الحقيقة :
ومن اروع الايات التي توضح هذا المعنى ﴿ ويل لكل همزة لمزة الذي جمع مالا وعدده يحسب ان ماله اخلده كلا لينبذن بالحطمة و ما ادراك ما الحطمة نار الله الموقدة التي تطلع على الافئدة ﴾
ان هذا المسكين الذي انجذب قلبه للمال غاية الانجذاب و القى كل قلبه وتعلقاته و طموحاته على المال، فهو لا يفرق أبدًا بين المال و بين ذاته فكلما يكثر ماله يحسب ان خلوده وبقائه قد امتد وازداد( الذي جمع مالا وعدده.. يحسب ان ماله اخلده).. فعندما يعد ماله كأنه يعد ذاته فقد ارتبط بالمال إلى حد ان ما يصيب ماله من زيادة او نقصان او تلف او اضاعه فهو يصيب ذاته فقد وصل إلى مقام الاتحاد وازيلت كل الحجب و الموانع واحدا اثر اخر ما بينه وبين ماله فماله قلبه النابض وعمره الممتد.
وطبعا الاية ذكرت المال بما هو مثال والا فان البعض يتعلق بداره واملاكه ومقامه ومنصبه وابنائه فهو يرى في هذه الموجودات ذاته ولايرى المغايرة ابدا فلقد تساقطت الموانع واحدا اثر الاخر . وازيلت كل الفواصل . وارتبط بمحبوبه وانشد إليه غاية الانشداد .
هذه المرحلة من مراحل الاندكاك في الغير من حب الذات والجاه والمقام من اخطر المراحل و هي غاية التسافل لانها تقابل بالضبظ هدفه الذي وجد من اجله وهو الاتحاد و العشق لله والقيم الالهيه .
ومن لطيف في الآية المتقدمة هي الربط بين الغاية و النتيجة فان من يهمز الناس ويلمزهم غرضه ان يحطمهم ولذلك سوف يصل إلى الحطمة ﴿ كلا لينبذن في الحطمة ﴾ لانه قد اتحد مع هذا الهدف وهذه الغاية، وكذا كلما اتحد الانسان مع شهواته وغاياته ومتعلقاته إلى حد تصعب فيه قطع هذه العلاقة بل قد تستحيل لانه قد انبنت شحمات قلبه عليها .
والآن نعود إلى الحديث عن طبيعة النار اننا حينما نقرا الروايات والآيات التي تتحدث عن النار نتصور انها كالنار التي في الدنيا الا انها تختلف عنها في شدة النارية فقد نفهم انها نار اشد منها بالاف الدرجات ، تتضاعف عليها بملايين السعرات .
وهذا تصور في حد ذاته خاطئ جدا ان النارالتي يتحدث عنها في القرآن لاتختلف مع النار التي نعهدها ، من حيث الشدة و الضعف وانما من حيث الشانية و الماهية فشؤونها تختلف تماما من حيث الوجود و الماهية وان اتحدت معها في الاسم.
فإن نار الدنيا انما تحرق ما تتسلط عليه ودائرة تسلطها محدودة وفعاليتها محدودة جدا بالقياس إلى النار الاخروية.
ان التي نعرفها تحرق الاجسام المادية التي تتسلط عليها اما الأمور التي لها ابعاد معنوية وروحية وفكرية
وعقائدية وثقافية فهي خارجة تماما عن دائرة حيطتها. فليس من شان نار الدنيا ان تنفذ إلى الفكر والعقيدة.
بينما من اوائل الايات النازلات و من عتائقها هي الايات التي تتحدث عن نار الاخرة ،وتوكد ان حقيقتها اكبرمن ذلك .
لقد جاء في سورة المدثر - وهي من عتائق السور واوائلها في معرض الحديث عن النار - ﴿ لا تبقي ولا تذر .... لواحة للبشر ﴾
أي ان نار الدنيا تبقي وتذر لانها انما تحرق الماديات واما المعنويات .. الضمير الشعور مراكز التفكير والميولات.. الحب والبغض .. فهي عوالم بعيدة عن سلطانها ، واما النار الاخرة فهي كما تحرق الجلود ولاجسام فهي تحرق مراكز الفكر والمشاعر والاحاسيس والضمير فهي لاتبقي ولاتذر ..
والان نجمع شتات الكلام ونقول ان من يتعلق باي موجود فهو سوف يتحد معه ويسكن قلبه ولايمكن ان نتقطع هذه العلاقة حتى بالموت فانه بالموت ينفصل عن المتعلق فقط ولكن العلاقة التي سكنت في القلب وانصهرت في الروح فهذه لا تزول والمهم ان تلك النار التي سوف يوجهها تحرق ظاهره وباطنه أي كل معشوقاته وهنا تكمن النكتة في قوله ﴿ وقودها الناس و الحجارة ﴾ فإن المراد هو الحديث عن مرتبة شديدة من التعذيب وذلك بان القلب قد اتحد مع الحجاره .
عندما تقول الاية وقودها الناس والحجارة أي وقودها الناس ومتعلقاتهم الباطلة . فكل ما يتعلق به الانسان تعلقا باطلا فهو حجارة .
بشكل طبيعي يكون مركز الاحاسيس والمشاعر والعواطف هي المتعلقات .وهذه النار ﴿ نار الله الموقدة التي تطلع على الافئدة ﴾ (أي انها تحرق مركز المشاعر) . النار الدنيوية مهما كبر حجمها الا انها لا تطلع على الافئدة لانها لا تصل الى الامور التي من شانها الكمون والتجرد فهي تتسلط على ما تصل اليه واذا كانت هناك موجودات مجردة وليس لها بعدا ماديا لا يمكن لهذه النار ان تصل اليها بينما النارالاخروية تتسلط على مركز المشاعر والاحاسيس , الحب والبغض و... وهذه النارالتي تحرق مركز المشاعروالفكر والعقائد ,نحن مامورين بالوقاية منها .
فالاية تقول ق نفسك واهلك من نار تطلع على الافئدة أي صحح مراكز فكرك ايها الانسان . الاية تقول ان طريق الوقاية هو استقامة مراكز الفكر وتصحيح الميولات . فان التعبير بالفؤاد تعبير عن مركز الفكر والمشاعر والاحاسيس .
مركز وساحة الوقاية هو تصحيح وتعديل ما يمكن ان يحرق . ان يقي الانسان ما يحرق ويحترق , عندما تشتري لابنك او رحمك بيتا او سياره او متاعا وتصبغ على هذا المتاع القيمه المعنويه وتجعل الحديث عنه كما انك تتحدث عن امرا الهي فاعلم انك تقرب إلى قلبه حجاره تحرقه بها .
الاسلام لا يمانع من التمتع بنعم الله .. ولكنه يواجه وبكل عنف ان تتحول هذه المتعة إلى قيمه معنوية مقدسه ، فاذا اصبحت الامور الماديه والجاه والمقام امورا يتنافس فيها الناس ويضيفون عليها كل المشاعر والاحساسيس التي يصرفها العقلاء والعرفاء ليشتروا بها رضوان الله فقد وقعت الطامة الكبرى التي ما مثلها نازله .
ليس هناك ما نع ابدا ان نتسفيد من الامكانيات الارضيه بل ان استخدامها من خصوصيات الانسان ومن مميزاتها ، ولكن هناك ممانعه شديده ان نصرف عليها من قلوبنا ومشاعرنا وفكرنا ما يجب ان يصرف على المقدسات ، وهنا تكمن النكته في التعذيب الذي يعيشه الانسان حينما يرى امرا يقدسه يحترق في نفسه ، اذن الحجارة ليست الا ماسكن القلوب من حطام الدنيا.
ومن اهم عناصر التربية الصلحة تحديد المقدسات داخل البيت واضفاء القدسيه وبشكل عملي على ما يستحق التقديس ، وسلب حيثية الدنيا التي لا تترك الانسان الا ان تسلبة حيثيته ، فإن التربيه هي القدره والفن على تغير الميولات الباطنيه وتوجيه الرغبات .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق