تقدر نسبة الإعاقة بين الأطفال في المملكة بنحو 4 بالمائة، وليس واضحاً إن كنا نملك السعة والإمكانات لرعايتهم. أما ما يمكن استنتاجه أننا لا نملك السعة تأسيساً على أننا نرسل أطفالنا للخارج للحصول على الرعاية المتخصصة، رغم أن صَدر المادة الثانية من نظام رعاية المعوقين يقول: «تكفل الدولة حق المعوق في خدمات الوقاية والرعاية والتأهيل..».
وعلى امتداد سنوات يحكي لي صديق معاناته مع ابنه، إذ كان يشكو مرّ الشكوى من استحالة رعايته ضمن نطاق بيت الأسرة، نظراً لتطور حالته، ولندرة المراكز المتخصصة في المملكة، ولارتفاع تكلفة ما هو متاح داخلياً مما اضطره لإبقائه تحت ملاحظتهم في المنزل دون رعاية مهنية. وانتهى الأمر بصديقي أن ترك ابنه -بعد تردد- مؤخراً في عهدة مركز متخصص في الامارات العربية المتحدة. وبالأمس القريب، أخبرني صديق آخر عن رحلة له للأردن، ليلاحظ الأعداد الكبيرة من أبنائنا من ذوي الاحتياجات الخاصة وصعوبات التعلم على تنوعها وتفاوتها وقد تركهم أهاليهم في معاهد متخصصة هناك، وكيف أن بعض الأطفال المغتربين قد أهمله أهله فلا يزورونه إلا نادراً، وكيف أن الحرمان العاطفي يقفز من عيون الصغار فيزيد معاناتهم.
ولا شك أن النقص في هذه المراكز أمرّ مشهور، فقد خصص برنامج الثامنة مع داوود الشريان أكثر من حلقة عن هذه القضية، والسؤال المحير هنا: لماذا تضطر الأسر السعودية أو المقيمة في السعودية لأخذ أبنائها وبناتها إلى البلدان المجاورة، مثل الامارات أو الأردن؟ هل يوجد سبب محدد؟ هل ينقصنا المال؟ أو تنقصنا الكوادر؟ أم أنها تعقيدات في منح التراخيص؟ أقرّ أني لا أدرك الجوانب المختلفة لهذه القضية، لكن من الصعب تصور لماذا لا يوجد لدينا ما يكفي من معاهد لرعاية أبنائنا ذوي الاحتياجات الخاصة أو ممن لديهم صعوبات تعلمّ؟ لعل من الملائم بيان أن أعداداً كبيرة من هؤلاء يذهبون للخارج على نفقة الحكومة فيضطرون اضطراراً للابتعاد عن أهاليهم، مما يعني أنهم وجدوا رعاية مهنية وافتقدوا الرعاية العاطفية وتواجد الأهل من حولهم، وكأن قَدَر هذه الشريحة الغالية أن تعاني من نقص ما؛ إما توفر الرعاية وانعدام الحنان الأسري أو توفر الحنان الأسري والحرمان من الرعاية المهنية! هل نحن -كمجتمع- مضطرون لوضع أنفسنا وأبنائنا في خيارات صعبة من هذا النوع؟ بالقطع لسنا مضطرين، فكما تقول العبارة الشعبية «ما علينا من الله قاصر». إذاً، هل هي أزمة تدبير، وكما يقول المثل الشعبي أيضاً «التدبير نصف المعيشة». ما زلت أذكر حتى الساعة مدى التأثر ومقدار التعاطف الشعبي الذي حظيت به حلقة الثامنة التي تناولت التوحد، على سبيل المثال، وتخيلت أن على إثرها سيحدث تحرك إيجابي هائل، فتنتشر المراكز في جنبات بلادنا الغالية، لكن شيئاً من هذا لم يحدث. وقد يقول قائل إن الجهات الرسمية لا ترسم حركاتها ومبادراتها بناء على ما يطرح في برامج هنا وهناك، لكني أقول: إذاً كيف نصدح ليل نهار بأننا نشكر من «يهدي لنا عيوبنا»! وليس هناك نقص أفدح من أن نُصدر للخارج العناية بأبنائنا الذين يحتاجون لرعاية خاصة، بسبب عدم توفر ما يكفي من مراكز هنا، إذ لا يوجد مبرر يدفعنا لنرسل أبناءنا قهراً.
فمن المهم إنشاء مراكز حكومية تنتشر في أنحاء المملكة، ولا بأس من إنشاء شركة حكومية متخصصة لهذا الأمر، لاسيما أننا نرى انتشاراً لهذه الشركات الحكومية المتخصصة، فكما أننا أنشأنا شركة العلم وحققت نجاحاً في مجالها، فمفيد إنشاء شركة لرعاية ذوي الاحتياجات الخاصة، وستحقق نجاحاً كبيراً نتيجة لتوفر الطلب الهائل من جهة وتوفر الجهة التي تدفع نظير الخدمات، وهي الحكومة. وبذلك ستوفر الدولة المبالغ الهائلة التي تنفق لإرسال أبنائنا للخارج بعيداً عن أهاليهم، كما سيُحدث وجود هذه الشركة نقلة نوعية في استقطاب الكوادر وتطويرها، وفي الارتقاء بخدمات رعاية هذه الشريحة كماً ونوعاً. ولعل من الملائم، أن تطلق وزارة الشئون الاجتماعية عدداً من الفرص الاستثمارية في مجال الخدمات الشخصية والاجتماعية، ولا بأس من تخصيص حوافز مالية من خلال برنامج مخصص تدعمه وزارة المالية كما هو الحال في قطاع التعليم والمستشفيات على سبيل المثال لا الحصر، إذ ان ذلك سيستقطب رأس المال الخاص بل وقد يحفز العديد من الجمعيات الخيرية والاجتماعية والأوقاف لإطلاق مشاريع لرعاية ذوي الاحتياجات الخاصة وصعوبات التعلم. وبالإضافة لمبادرة حفز رؤوس الأموال الخاصة لتقديم خدمات اجتماعية، يبقى إطلاق شركة وطنية للرعاية أمراً محورياً لتسريع المبادرات ودعمها فنياً ومالياً والدخول في شراكات محلية وأجنبية بما يردم الفجوة في الطلب المحلي على خدمات نحن في أمس الحاجة لها كمجتمع؛ فهي ترتبط بفلذات الأكباد ورعايتهم في وطنهم وبين أهليهم ومحبيهم.
بالإضافة لما تقدم، فمهم أن تحث الجهات الحكومية المعنية الجهات الأهلية المتخصصة برعاية الإعاقة إقامة مشاريع خدمية في أنحاء المملكة، فالدور التوعوي وتوزيع المطويات مهم، لكن المجتمع يحتاج في نهاية المطاف منافذ تقدم خدمات موثوقة ومرخصة للشريحة المعنية وتخضع لرقابة الجهات المسئولة وبالقرب من المراكز الحضرية بما يمكن الأهل من التواصل باستمرار مع أبنائهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق