كان المائز الأساس للإنسان على المخلوقات الأخرى ذلك الشوق للاستقصاء واكتشاف المجهول وكان لعقله الجبّار الأثر الأكبر لامتداد فكره وتناوله حقولاً معرفية استطاع من خلال كدح علمي وإثراء فكري متراكم أن يصنع مدينته وحضارته .
لقد كان الإنسان بطبعه منطقياً إلا أن استقصاءاته الدائبة التي انتجت معارف متنوعة جعلته يضع قواعدها صحة لذهنه كي لا ينزلق في أخطاء تؤدي إلى خلط فادح وقد كان على رأس أولويات تلك القواعد (( قواعد البحث ومناهجه )) وقد أثارت قضية المنهج المفكرين والفلاسفة منذ المعلم اليوناني الكبير (( سقراط)) ، فـ (( ديكارت )) – مثلاً – نوّه بأهمية المنهج وضرورته [1] وأكد على عدم كفاية وجود عقل سليم لدينا بل ينبغي أن يستخدم هذا العقل استخداماً سليماً ، وإذا كان ثمة اختلاف بين الناس في مستوى الذكاء فإن مرجع هذا لا إلى تفاوت ملكاتهم الطبيعية وإنما إلى اختلاف المناهج التي يتبعونها ، فلكل علم منهج له قواعده وعمليات تخصه والتي تتيح له أن يحصل على المعرفة السليمة في طريق بحثه عن الحقيقة .
وفي بواكير البحث المنهجي اتجهت نزعة مضادة حمل لواءها (السوفسطائيون) فقد كان هؤلاء يمارسون في مناقشاتهم وخطبهم المغالطة والجدل ويتفاخرون بتأييد القول الواحد ونقيضه مستخدمين حججاً في مختلف المواقف للإقناع الخطابي فنظروا في الألفاظ ودلالالتها والقضايا وأنواعها والحجج وشروطها والمغالطة وأساليبها [2] وتناولوا بالجدل أفكاراً فلسفية معارضين بعضها ببعض ومتطرفين بعبثهم إلى المبادئ الخلقية والاجتماعية وأذاعوا التشكيك في مقولات ومفاهيم متعددة كالحق والباطل والخير والشر والعدل والظلم وكان أشهرهم اثنان ((بروتاجوراس )) و (( وجورجياس)) لكن (( سقراط )) تصدى للجدل السوفسطائي بعد أن أفاد من مناهجهم وكون له منهجاً في الفلسفة ، ففي منهجه الفلسفي[3] اجتهد في تعريف الألفاظ والمعاني تعريفاً جامعاً مانعاً وصنف الأشياء في أجناس وأنواع تندرج تحت هذا العنوان مقالات ثلاثة :
ليمتنع الخلط بينهما وبهذا كشف زيف جدلهم المرتكز على الاستفادة من اشتراك الألفاظ وإبهام المعاني والهروب من الحد الذي يكشف المغالطة .
ومنذ عهد ((سقراط )) آمن اليونانيون بوجود عالم ثابت يستطيع العقل أن يدرك قوانينه وأن يلم به فأصبحت المعرفة في رأيهم ممكنة وأن الموضوع قابل للتحديد ، وقد وضع (( أفلاطون )) مختلف مفاهيمه لكي يبين كيفية الارتقاء إلى المعرفة الشاملة ، ثم جاء ((أرسطو )) واضعاً كتبه في المنطق[4] ويعتبر هذا الفيلسوف الواضع الحقيقي للاستقراء الذي يقوم عليه البحث العلمي في العلوم الطبيعية ثم جاء دور الملاحقين لتطوير منهجه وتكميله [5] .
وإذا كان (( أرسطو )) هو واضع لبنة الاستقراء إلا أن فهمه له يختلف عن فهم المتأخرين – في عصر النهضة – وخاصة (( فرنسيس بيكون )) فقد كانت الجزئيات التي يحصيها (( أرسطو )) في استقرائه ليست هي الأفراد الجزئية وإنما الأنواع التي يمكن أن تكون لها صفاتها المميزة عنده ، أما الفرد فلا يمكن تعريفه لعدم وجود صفات تميزه عن أفراد نوعه بينما الأنواع قابلة للتعريف لوجود صفات مميّزة لها وهكذا يكون الاستقراء عند ((أرسطو )) هو إقامة البرهان على قضية كلية بالرجوع إلى الأمثلة التي هي الأنواع لا الأفراد الجزئية [6] .
جاء عصر النهضة – وبالتحديد إبان القرن السابع عشر – فأسقط تصنيف الكائنات إلى أنواع من مجال البحث العلمي وحل محلها الوحدات الأولية التي يمكن أن تخضع لقياس كمي دقيق تختفي معه كل تلك الخصائص التي لا يمكن أن تفيد العلم في شيء وبهذا دشن هذا العصر استقلالية العلوم وظهر في الأفق تعدد المناهج واختصاص كل حقل معرفي للعلوم بما يناسبه من منهج فتم بذلك ظهور حقلين كبيرين هما حقل العلوم الطبيعية وحقل العلوم الإنسانية ، وهكذا أصبحت قضية البحث عن المنهج مسألة مهمّة في كل العلوم الدقيقة والعلوم الإنسانية إذ ترتبط نتائج كل علم بالمنهجية المتبعة (( فليس من علم دون منهجية تشكل الخلفية التي بني عليها فمنهجية (كلود برنارد) وتأكيدها الأساس بأن الحياة تتبع قوانين الفيزياء والكيمياء كانت وراء بناء الطب الحديث وتقدمه السريع وأكّدت هذه المنهجية أن الكائنات الحية لاتتبع ديناميكية غامضة ولا تخفي أسراراً عريقة في ثناياها بل تخضع تماماً لكل القوانين الفيزيائية والكيميائية وبالتالي فإن معرفة الآلية التي تتحكم فيها ممكنة بالتجربة )) [7] .
لقد حمل عصر النهضة ثورة علمية كانت له مقوماً كبيراً فقد أدّت الاكتشافات الفلكية وكذلك الانخراط في دراسة الظواهر على أسس علمية إلى نسف كثير من المسلمات التي اتكأ عليها علماء من قبل لتفسير كثير من الظواهر وبدأ العلم الجديد بقوانينه وتجاربه رائداً ، وقد أدّى تطور العلم في مجال الطبيعة وسيطرته عليها نسبياً إلى تسوية العلوم الإنسانية بالعلوم الطبيعية على يد علماء أيّدوا النهج التجريبي بعد أن لمسوا عن قرب تأخّر العلوم الإنسانية فقد رأى هؤلاء أن الخلاص الوحيد من تأخر هذه العلوم عن العلوم الطبيعية يكمن في ضرورة تطبيق المنهج التجريبي عليها سعياً للوصول إلى قوانين كلية يقينية وتجنباً للذاتية وعدم الدّقة في مجال الإنسانيات .
لقد آمن أولئك أن كليهما يخضع لنفس المعايير المنهجية ورأوا أن الحقائق الاجتماعية مثل الحقائق الفيزيائية واقعية وعملية ويمكن قياسها فالقوانين التي تسود العالم الميكانيكي كالضغط والكثافة والمقاومة والتوازن والتجاذب والتنافر هي نفسها التي تطبق على العالم الاجتماعي فالمجتمع كالطبيعة يخضع في بقائه وتطوره لنفس القواعد التي يخضع لها العالم الطبيعي [8] .
إن رؤية هؤلاء العلماء التجريبيين قد صدرت عن فلسفة اجتماعية للعقل الغربي الذي انطلق من إساره منذ عصر النهضة في اتجاه رؤية للطبيعة الخاضعة للقوانين الثابتة وأكدوا أن الإنسانية تتبع قوانين مماثلة لما هو الحال في الطبيعة المادية ورأوا (( أن العلم بمعناه الطبيعي هو النموذج القائم الذي يثيرالرغبة في احتذائه لدى الباحثين في العلوم الإنسانية سواء من حيث منهجه أو روحه أو مستوى نجاحه )) [9] .
ولاشك أن العلوم الطبيعية قد قدر لها أن تواصل انطلاقها بأسرع مما صنعت العلوم الإنسانية لعوامل متعددة أهمها سهولة انفصالها واستقلالها عن مختلف مجالات النشاط الإنساني الاجتماعي والروحي لأن موضوعاتها محايدة لا تتميز بالوعي والإرادة يؤيدها في ذلك ما كانت تثبته كشوفها من النفع المباشر الذي يتخذ صورة ملموسة .
إن دراسة الظواهر الاجتماعية لتختلف عن دراسة الظواهر الطبيعية لأن الأولى لا تعمل تحت قوانين حاسمة تخضع للتجربة الدقيقة في المختبرات بل أنها تتناول نحواً فريداً يعتمد على عوامل ليست كلها قابلة للعزل التجريبي والتجربة العلمية في المجتمع لها نوع من التصرف الإنساني ذي الصبغة الشخصية عن الموضوعية التي يتطلبها العلم.
فالظاهرة الاجتماعية ليست خاضعة لقواعد المنهج دون تقدير لطبيعتها الخاصة، فـ "المجتمع ليس علماً محضاً، بل يعيش أيضاً بالإنسانيات غير العلمية كالدين والأخلاق والفلسفة، بكل ما يلابسـها من القـيم والمثـل والآمـال والانفعالات"[10] .
وبصــدد هـذا الفـارق قـال (ديلثي):-
إن مادة العلوم الاجتماعية مادة معطاة، وليست مشتقة من أي شيء خارجها، مثل مادة العلوم الطبيعية التي هي مشتقة من الطبيعة. إن على العالم الاجتماعي أن يجد مفتاح العالم الاجتماعي في نفسه وليس خارجها، إن العلوم الطبيعية تبحث عن غايات مجردة، بينما تبحث العلوم الاجتماعية عن فهم آني، من خلال النظرة في مادتها الخام، إن الإدراك الفني والإنساني هما غاية العلوم الاجتماعية، وهذا يمكّن الوصول إليهما من خلال التحديد الدقيق للقيم والمعاني التي ندرسها في عقول الفاعلين الاجتماعيين[11] .
وتتدخل حرية الإرادة البشرية في الظواهر الإنسانية، وتقوم بتغيير مجراها، تغييراً يجعل من الصعوبة إخضاعها لقانون علمي ثابت، ومن هذا يتيسر التنبؤ في مجال العلوم الطبيعية، وهذا غير مقدور في العلوم الإنسانية على وجه الدقة، لأن سير ظواهره يمكن أن يُغيّر مجراه بتدخل الإرادة، وأحكام الناس تتأثر بعوامل لا تساير منطق العقل .
وقوانين العلوم الإنسانية ليست موضوعية خالصة، إذ أن الباحث في هذه المجالات لا يستطيع أن يتجرد من أهوائه، وهو ينظر إلى موضوعه الذي يتصل بالإنسان من خلال عقيدته وثقافته وتقاليد موطنه وغير ذلك من عوامل تؤثر على نزاهته، وتجعله باحثاً ذاتياً ومتأثراً بالعوامل الذاتية، وهذا عكس العلوم الطبيعية، فإن تحرر الباحث من الميل والهوى ميسور عند علاج موضوعاتها، ومن هنا كان البحث العلمي موضوعياً وليس ذاتياً .
إن الدقة في قوانين العلوم الطبيعية مرجعها إلى صورتها الرياضية، لأن من الميسور أن تقاس مقاديرها بالكمية، أما العلوم الإنسانية فيتعذر إخضاع موضوعاتها لهذا الضبط الكمي، ويستحيل تصويرها بالمعادلات الرياضية الدقيقة، مما أدى ببعض الباحثين في العلوم الإنسانية إلى القول بأن علومهم لا تكون عامة أبداً، لأنها لا تخلو من الحالات الاستثنائية التي لا تدخل في طبيعتها [12] .
بل هناك عوائق جمة لا يمكن أن نلتمس من منهج العلوم الطبيعية نتائج إيجابية، إذا ما أردناه أداة فاعلة لتفسير بعض الظواهر في العلوم الإنسانية، أشير - هنا – إلى بعضٍ منها :-
1 – في العلوم الإنسانية لا يتيسر للباحث أن يدخل في موقف اجتماعي لأن إدخال ذلك قد يؤدي إلى تعديل غير قابل للتصحيح، فتكرار المتغير لمعرفة ما إذا كانت المشاهدة ثابتة، سوف يقع دوماً على متغيرات لم تعد في أوضاعها الأولى، وما دمنا على غير يقين من عزونا للثوابت أو المتغيرات المشاهدة إلى الحالات الأصلية، فمن المستحيل أن يقرر بالوسائل التجريبية ما إذا كان تعديل معين في ظاهرة اجتماعية يمكن أن ننسبه بثقة إلى نمط معين.
وإذا كان الباحثون قادرين على التغلب على هذه الصعوبات في موضوعات الدراسة غير الإنسانية، باستخدام عيّنات جديدة في كل محاولة تُكرّر، فإن ذلك متعذر في العلوم الإنسانية، لأن العينات على فرض وجود قدر كاف منها قد لا تكون متماثلة في الخواص، فالإطراد سوف يكون أقل ظهوراً منه في الظواهر الطبيعية، وذلك بسبب التعقيد في الظواهر الإنسانية، مما يصعب على الباحث أن يعزل جانباً واحداً من جوانب الموقف التجريبي عزلاً يمكنه من تتبع ذلك العامل .
2 – إن منهج العلوم الطبيعية يمكنه إعادة التجربة في ظروف مختلفة زمانياً ومكانياً، بينما تتسم العلوم الإنسانية بحركيتها، وتغيرها، وعدم ثباتها، ومن ثم فهي ظواهر انفرادية لا تتكرر تحت نفس الشروط، وليس بإمكان الباحث أن يعيد تركيبها، إنها تاريخية تجسد لحظة تاريخية معينة [13] .
3 – تختلف درجة إدراك الظاهرة الطبيعية عن الظاهرة الإنسانية، لأن الأولى تقدم نفسها للباحث شيئاً مستقلاً عنه، تتيح له حرية الملاحظة الخارجية، بوصفها ظاهرة مادية، لها بناء داخلي، يغير من شكلها ومظهرها، ويتفاعل مع المحيط الخارجي الذي توجد فيه، فالباحث في هذه الحالة، يتعامل مع هياكل معينة مجردة من الشعور والتفاعل، أما الظواهر الإنسانية فدرجة تعقيدها أكثر، وهي لا تقدم نفسها على نفس الشكل من البساطة، وليست هياكل ميتة ومجردة عن كل حركة، إنها تتمتع ببناء داخلي خاص، حيث أن الباحث الذي يتعامل مع الظواهر الإنسانية يجد نفسه داخل نظام من العلاقات والتفاعلات، وهنا لا تكفي الملاحظة الخارجية لإدراك حقيقة هذه الظواهر التي يكون فيها الإنسان مؤثراً ومتأثراً، وله حرية تغيير مظهره وسلوكه الخارجي .
4 – تتعامل العلوم الطبيعية مع ظواهر ذات طبيعة بسيطة التكوين، أما العلوم الإنسانية فإنها تتعامل مع ظواهر حية أكثر تعقيداً في تكوينها، وحينما حاول علماء الاجتماع تطبيق النموذج الطبيعي على الظواهر الإنسانية، كانوا يركزون على الظواهر المحسوسة في الإنسان، المتمثلة في السلوك الظاهري القابل للإدراك والمشاهدة، دون النفاذ إلى بواعث هذا السلوك، ودون النفاذ إلى الجوانب الروحية والمعنوية للإنسان، ولذلك جاءت النتائج مشوهة لحقيقة الإنسان الذي اختزلته في الجانب المادي .
5 – تتميز الظواهر الإنسانية بالتعقيد المضاعف: تعقيد على مستوى الفرد في تكوينه الداخلي، وتعقيد على مستوى تفاعل الأفراد في ما بينها، وفي طبيعة العلاقات التي تشكل رابطة بينها، وتعقيد يتعلق بطبيعة الظواهر الإنسانية التي تتميز عن الظواهر الطبيعية بالحركة والتغيير وعدم الثبات والتكرار، ولذا فإن الالتزام بالنموذج الطبيعي في دراسة الظواهر الاجتماعية/الإنسانية يفترض في الإنسان أن يكون عبارة عن هيكل ميت، لأنه لا يدرك منه سوى الجانب المادي، بينما تخفى عليه الجوانب الروحية والمعنوية .
6 – يقوم النموذج الطبيعي في دراسته الفيزياء – مثلاً – على أساس عزل الذرة عن محيطها المادي، وعن الطبيعة التي وجدت فيها، قصد دراستها وملاحظتها والتوصل إلى مكوناتها الأصلية.
ولكن تطبيق هذا النموذج على المجال الإنساني لن يحقق ذات النتائج، فتفتيت الإنسانية إلى أجزاء مكونة من أفراد لا يعكس حقيقة الإنسانية، لأن المجتمع البشري في أدنى صوره كالأسرة لا تتكون من مجموعة أفراد تأخذ مكانها في مساحات معينة، وإنما هي مجموع التفاعلات والعلائق التي تربط بين أجزائها، وفهم للدوافع النفسية التي توجه هذه العلاقات والتفاعلات التي تحدد سلوكها الخارجي .
أعود إلى ما ألمحت إليه في ثنايا هذه المقالة عن (الموضوعية) التي يقصد منها إبعاد تلك الاعتبارات الغريبة، خاصة الاعتبار الانفعالي العاطفي، والتحرر من سلطة العرف، وتجنب التأييد السريع، هذه الموضوعية تشكل المشكلة المحورية في العلوم الإنسانية.
إنها ليست فضولاً، وإنما هي موقف للباحث، سيجد من خلاله عوامل التميز التي منها دوافع الباحث وموقفه الاجتماعي .
وتبقى إثارة مهمة حول (العلوم الإنسانية والقيم): فهل بإمكان تلك العلوم أن تنفصل عن القيم التي تعبّر عن ظواهر إنسانية اندمجت فأدت إلى تلك الأحكام؟
لنأخذ علماء الاجتماع مثالاً:
حينما عزموا على العزوف عن اعتبار القيم الروحية التي توجّه سلوك الإنسان، قاصدين الالتزام بالموضوعية العلمية التي تركز على الظاهرة القابلة للملاحظة والادراك الحسي، كانت النتائج التي انتهوا إليها على حساب الحقيقة العلمية، بعد أن فشلت تلك الدراسات في أن تعكس الإنسان في واقع أمره، مما يدلل على عدم صلاحية هذا المنهج في استيعاب الجوانب المكوّنة لشخصية الإنسان في كل أبعادها المادية والروحية .
لنأخذ – مرة أخرى – علماء الاجتماع ودراسة الظواهر الأخلاقية: فلقد شرعوا مطبّقين المنهج التجريبي لدراسة تلك الظواهر، وكانت تعتمد على الوصف الظاهري للسلوك الأخلاقي، متجنبين الدراسة المعيارية التي تحدد الغايات، وكانت قناعتهم المنهجية تقتضي: أن الدراسة العلمية للظاهرة الأخلاقية، ليس من شأنها أن تحدد الغايات، وتصدر أحكاماً معيارية في ضوء مُثُلٍ معينة، لأن ذلك سوف يخرج عن الوصف العلمي المحايد الذي يقف عن حد الوصف.
فالمنهج التجريبي في دراسته للظواهر الأخلاقية لم يستطع أن يستوعب حقيقة هذه الظواهر لتركيزه على الجانب المادي المتجسد في أفعال الناس، مُجرِّداً الأخلاق من العنصر القيمي والمعياري المهمين، وهذا يكفي في الدلالة على عدم صلاحية المنهج التجريبي في دراسة موضوع ذي طبيعة مخالفة، إن القيم جزء جوهري من الوقائع التي يدرسها الباحث في العلوم الإنسانية التي تقوم على افتراضات قيمية.
بقي أن أقول :-
إن منهج العلوم الطبيعية عاجز عن اكتشاف عناصر من شأنها أن تعمّق أفكار الباحث عن الظواهر الإنسانية، والتزام هذا المنهج يشكل عائقاً خطراً في وجه تقدم هذه العلوم، حيث أن التصرفات يمكن أن تعطي دلالات مختلفة، لا تعبر عن كل شيء.
كما أن الملاحظة والوصف لا يكفيان، والملاحظة البسيطة للواقعة غير كافية للكشف عن الدوافع.
إن اختلاف الظواهر الإنسانية عن الظواهر الطبيعية يستلزم اختلافاً في طبيعة المنهج الذي يتعامل به الباحث مع كلٍّ منهما، وبذلك تكون الدعوة إلى تبني المنهج الطبيعي ونماذجه الطبيعية، والتركيز على الظاهرة المادية للسلوك الإنساني، دون الدوافع الداخلية الموجهة لهذا السلوك، لتحقيق صفة العلمية في العلوم الإنسانية، دعوة جديرة بعدم الاعتبار .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق