محمد العلي شاعر ومفكر وأديب سعودي، ليس بحاجة إلى مقدمة تعريفية، كما أنّ صلته بإيجاد الحداثة والابداع الفكري ليست أمرا خفيا، فهو شخص محرّض على التفكير والتأمّل والتساؤل، كان سعيدا بكثرة الأسئلة التي أثيرت في "ملتقى بن المقرب الأدبي" الذي استضافه مؤخرا، وكان يتلقى الأسئلة بصدر رحب ويعتبرها دلالة على الوعي، " الجسر الثقافي" انفرد بنقل جانب من هذه الأسئلة التي أثارها الأعضاء المتحلقون حول العلي في أمسية اتسمت بالجرأة والحيوية والعمق والعطاء بقدر ما وجه إليه من أسئلة كثيرة ..
القارئ الفعّال
قد يستعصي فهم الرمز في القصيدة على القارئ، فكيف تتعامل مع الرّمز بحيث تبقى متواصلا مع القارئ؟
-المتلقي ليس سلبيا، ويجب ألا يكون سلبيا، ينبغي أن يكون مشاركا لصاحب النصّ، والمشاركة تحتاج إلى حسّ يوصّل بين المتلقي وقائل النصّ، إذا انعدم الجسر فلا يكون هناك تجاوب، يحتاج الرمز إلى مستوى من الوصول، "عيناك غابتا نخيل ساعة السحر"، عينا من؟ الرمز لا يستطيع الوصول إليه إلا من هو بمستواه، كثير من رموز الشعراء جديدة تحتاج إلى جهد للوصول إليها.
ولكن في كثير من الأحيان تنعدم الصلة، سئل أدونيس: ماذا يعني التعقيد في قصيدتك؟ فقال: يكفيني أن يفهمني عشرة في الوطن العربي!!.
أليس الشعر لكلّ الناس؟
أدونيس يطرح إشكالية كبيرة، فهو يري اننا في الوطن العربي مجتمع كلّه أميّون، مجتمع منغلق ذوقا وفهما وضحل. هناك مقولة فرنسية "ليس المهمّ أن يفهمني أحد، المهمّ أن أقول". هذه مقولة خاطئة. أدونيس أوصل ما أراده في العالم العربي بكتب نقدية. أما الشعر فقليل من يفهمه حتى من الشعراء من لا يفهمه، باستثناء ديوان "مهيار" فأشعاره فيه واضحة.
عزلة الشعر
أشرت ذات مرة إلى أن وعي المجتمع بالشعر يكاد يكون منعدما، فما الذي يمكن للشعراء أو الأدباء فعله لتجسير هذه الهوة؟
- لاتساع هذه الهوة، لا يستطيع الأدباء وحدهم أن يجسروها، هذه تحتاج أولا إلى التربية، نحتاج إلى أن تكون مناهجنا على غير حالها، أول ما يقرأ الطالب عن الشعر الجاهلي الذي أصبح غريبا حتّى عن الشعراء، ولذا فهو يقرؤه كالببغاء، وإذا تطوّر يقرأ عن شوقي وحافظ، هنا انعدام للدهشة، هو لا يفهم السياب وحداد . تجسير الهوة يحتاج إلى التعليم، يحتاج إلى الإعلام، لم نعد نرى في الإعلام تحليلا للشعر أو برنامجا ثقافيا. زمن الشاعر الفاعل انتهى، هناك شاعر على المتلقي أن يصل إليه عبر عدّة جسور، كالتعليم والتربية والتذوق والمجتمع.
قبل 30 عاما كنت تنصح الشعراء المبتدئين بقراءة محمد حسن عواد، لماذا عوّاد بالذات؟
-كنت أنصح بقراءته لأنه واضح أولا، وثانيا لأنه وطني، وثالثا لأنه متجاوز للمرحلة التي هو فيها، حتى الآن لا تجد أحدا في المملكة تعرّض للذي تعرّض إليه أو قال ما قاله.
وطن كونيّ
حين خرجت من النجف قدمت إلى المملكة مع شعور بالغربة تجسّد في قصيدة "غربة"، هل ما زال العلي يشعر أنه غريب؟
-يقول أبو حيان التوحيدي: إن الغريب هو من في غربته غريب، هدفه ليس له نظير، كل إنسان يُحسب أحيانا غريبا، فإذ لم يشعر بهذه الغربة فهذا يعني أنه أصبح فردا من المجموع، في أحيان كثيرة يشعر بالغربة كلّ من يمتلك حسا مرهفا. ثانيا: لماذا صار الوطن وطنا؟.
وحبَّب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضّاها الشَّباب هنالكا
أمين معلوف يقول: إنّ الهويات ليست واحدة، وطني هو لبنان وفرنسا، الوطن هو ما تستشعر فيه بالطمأنينة والألفة وأنك تحب الآخرين ويحبّونك، الوطن مثلما أخدمه أريده أن يخدمني واذا لم يخدمك الوطن فما هو معناه؟
قضيت سنوات طويلة في النجف، هذا وطني وذاك وطني، أحنّ وسأبقى أحنّ للنجف، حيث ذكريات الصبا وأصدقاء الدراسة، هناك من ينظر إلى العالم كله على أنه وطنه، هذا الشعور هو الطبيعي.
في ظلّ التسارع الزمني، ما السبيل لتنمية الذائقة؟
-التذوّق يأتي من القراءة والفهم، ألا أسبق الألفاظ، نحن نأتي للنص محملين بمعانينا ولا نفكّر فيما يحمله النصّ، وهذه هي إحدى محبطات اللغة العربية، فالمعنى سابق على اللفظ ومقدّم عليه، وهذا خطأ، التذوّق أن تتذوّق فهم المعنى من اللفظ، وهذا يحتاج إلى تربية.
مشرق ومغرب
ما الفرق بين المشرق والمغرب العربي؟
- الفرق بين المعرفة والأدب في المشرق والمغرب هائل، لأنهم يتقنون اللغة الفرنسية، بمعنى أنّ ذهنيتهم أصبحت منقادة إلى اللغة التي يتقنونها، تمكنه من الفرنسية أكبر من العربية، التفكير مرتبط باللغة ويتبعها، ليس هناك تفكير خارج اللغة، وهذا معناه أن المستوى المعرفي للثقافة الفرنسية قريب إليه. في الشرق معظمهم لا يتقنون لغة أخرى إلا بشكل سطحي فهو لا يفكّر بها. في الجزائر فرنسا بقيت 130 سنة، وفي تونس 75 سنة. أركون والجابري علمان كبيران وكلاهما يفكر بالفرنسية، إلا أنّ الجابري نشأ حزبيا عربيا، وهذه الحزبية أعطته سيولة في اللغة.
ألا تجد أن الانتماء الحزبي يحدّ من الرؤية والتعاطي مع الحياة؟
-الأيديولوجيات تختلف، هناك أيديولوجيات جدلية، تستطيع تجديد نفسها وتتماشى مع التاريخ، وحتى إذا سبقها سبقها بمسافة قصيرة، وهناك أيديولوجيات مغلقة وكأنها نصّ مغلق على نفسه كما تدّعي البنيوية، يقيني لا يستطيع الحركة.
ما بعد الحداثة
منجزنا الأدبي، أين موقعه من نظرية ما بعد الحداثة؟
-نحن لم نصل إلى الحداثة، وليس كل المفكرين يعتقدون بما بعد الحداثة، مفكرو القطيعة مثل فوكو يؤمن بما بعد الحداثة، أما الذي يؤمن أن المعرفة استمرار دائم وحذف وإضافة مثل كثير من المفكرين العرب والأجانب فلا يعتقد بما بعد الحداثة، الحداثة لم تكن تؤمن بالوهم أو الإلهام بالأشياء، ما بعد الحداثة أتت لتجعل مثل هذه الأمور دخيلة في المعرفة، إذا هي مجرد استمرار في صعود السّلّم لا تبديل السّلّم إلى آخر.
ليست قصيدة
نصحني ناقد أن أتخفف من العمودي، وقال كن ابن اللحظة، وأنا لا أريد أن أمشي مع التيار ولا عكسه، ما رأيك؟
-كثير من الناس يظنون أن الحداثة في القالب والموسيقى فيستبدلون الموسيقى بالموسيقى الداخلية، من نصحك لا يقرأ محمود درويش، النثر لون أدبي، إذا بلعنا الصبر نقول إنه لون من ألوان الفنّ، الشعر يجب أن يكون ذا موسيقى خارجية لا داخلية، مشكلتها في تسميتها قصيدة، لمَ لا نسميها لونا أدبيا لكن ليست قصيدة.
الشعر حلم
ما هو أثر الشعر الصوفي على الشعر برمته غربا وشرقا؟
- التصوّف رؤية غير حسية، سبينوزا صوفي وهو فيلسوف، كثير من الصوفية والسورياليين يلتقون، ارجع لـ "الصوفية والسوريالية" لأدونيس، تجد أن هناك تقاربا بين السورياليين الذين يجدون أن الشعر حلم، وبين الصوفيين الذين عندهم الغيبوبة، تغيب عن ذاتك وعن الناس.
وهم اليومي
ينصح بعض النقاد اليوم حين يتحدثون عن الحداثة بالتخفف من الأمور البلاغية والتحوّل إلى المجاز، ما رأيك بهذا؟
- يفرق البلاغيون بين البلاغة والفصاحة، الفصاحة في اللفظ، وقد يكون الببغاء فصيحا وليس بليغا لأن البلاغة في المعنى، التخفيف من البلاغة ليس في المعنى بل في اللفظ، اختلط على الجماعة اللفظ والمعنى، لذلك لا نجد إلا القليل منهم من نستطيع أنّ نسميه "فنان" في هذا اللون من الفنّ. مثلا قاسم حداد، عنده قصيدتان، إحداهما في "المحرّق"، وأخرى في "فلّاحة"، قصيدة المحرّق نقرؤها ولا نملّ، لأنها توهّج ذاتي حقيقي في مدينته "المحرّق"، ولكن تلك التي تخفف فيها من البلاغة وتحدّث عن اليومي، تجد فيها اليومي ولا تجد الشعر.
كيف ينتقل الشاعر مما هو حسي إلى ما هو معنوي؟
- هل المعنوي منفصل عما هو حسي، هذه قضية فلسفية، الحسي هو الجسر الذي يوصل إلى المعنوي، لا انفصال إلا عند بعض الفلاسفة، أبواب المعرفة حسية.
ربيع وخريف
قلت قبل سنوات في لقاء صحفي أنك متفائل بمستقبل الثقافة في المملكة، هل لا تزال متفائلا؟
-نعم، لا زلت متفائلا، التفاؤل ضروري، وإن كان التفاؤل غير علمي، فهو أمر وجداني، حينما تنظر إلى الكتاب في الصحف اليومية في السعودية تجد تطوّرا، وهذا يعني تطورا في الفكر والأدب، يعني عدم الجمود.
هل تراجعت عن أفكار كنت تؤمن بها؟ وما هي اهم هذه الأفكار؟
- باشلار يقول: إن العلم هو معرفة الخطأ، يسمّونه فيلسوف الخطأ، لا بد من الخطأ في مسيرة أيّ إنسان، ابن خلدون مفكر اجتماعي كبير كان يؤمن بأن الشمس باردة، هل معنى هذا أنه لو جاء الآن لا يغير رأيه، عدم التصحيح يعني الأيديولوجيات الجامدة. وهذا هو الخطأ الذي اعتقدته يوما ما.
لماذا تحول الربيع العربي إلى خريف؟
- كثير من الناس يصفونه بالخريف وهذا خطأ، هو حقق شيئين مهمين، هدم جدار الخوف، والثاني أن القائد الآن لم يعد فردا بل المجتمع هو القائد، هذا لم يحدث في التاريخ العربي كله إلا الآن..
من قصائد الشاعر والكاتب محمد العلي
لا ماء في الماء!!
ما الذي سوف يبقى
إذا رحت أنزع عنك الأساطير
أرمي المحار الذي في الخيال إلى الوحل؟
ماذا سأصنع بالأرق العذب
ماذا سأصنع بالأرق العذب
بالجارحات الأنيقات
أما لقيتك دون الضباب الجميل
كما أنت.. كن لي كما أنت
معتكراً غارقاً في السفوح البعيدة
مختلطاً بالثمار
ومكتئباً كالعيون الوحيدة
بيني وبينك هذا الضباب
الذي يمنح الحلم أشواقه
يمنح الوهم أجنحة الماء
ها أنت فيه غويُ
كنافورة من نخيل
كأرجوحة من هديل.
يقولون كنت هنا منذ أول فجر
وآباؤنا بذروا فيك أحلامهم
بذورنا -ولما نزل في الأماني- على الموج
وكنا حقول الهوى فوق زرقتك البكر
كنا الزغاريد تشعلها الفاطمات إذا ما أطلوا مع السحب
(دانه.. دانه.. لا.. دانه)
ها نحن جئنا
ولسنا نريد اللآلئ
لسنا نريد الذي لم يزل نازحًا في امتدادك
إنا نريد الوجوه التي كان آباؤنا يبذرون على الموج,
أسماءنا
أن نسير على الأرض دون انحناء..
وها أنت كالحزن تنداح
تنداح دون انتهاء..
وبيني وبينك هذا الضباب الجميل
- ترمدت الشهب الحُلميّة
يلبس عري الصخور هو الآن
لا ماء في الماء
أوقفني مرة نورس كان في البعد
أسمع من ريشه المتقاطر لحنًا
وأخيلة تغسل الموت من كل أوهامنا المشرئبة بالخوف
لكنه ذاب في الملح..
أعدو قرونًا على السيف
أسأل كل الشموس التي اختبأت فيه
كل الحرارات
كل الرياح, المرايا, المراكب
سرت إلى أين
يا زرقة علمتنا الأناشيد؟!
كان الأصيل شهبا كنهدين ما التفتا بعد
خامرني غزلٌ مثقفٌ بالعصافير
لكنها لم تجئ
زرقة علمتنا الأناشيد
أطفأت قلبي
- جميل سهاد المحبين
حين يكون الظلام خليجًا
وتأوي إلى الأرض أنهارها..
ثم ينأى الخليج الذي يحمل القلب,
ينأى إلى حيث يبقي الضباب: الحداء- الدليل..
هناك أقتل هذا الكمين المخاتل، أو ما يسمونه:
شعراً، وأرقص.. أرقص و.. والذكريات الحييات..
عن أمس, أو عن غدٍ سوف يأتي
وبيني وبينك هذا الضباب الجميل
الحُزن الآخر
كان للحُزن عندك منذ الطفولة
زبدٌ أبيض مثل دجلة،
كان يرتاعُ منك وترتاعُ منه
وإذ يُجهش الليل، تُدنيه
تُدنيه حتى الشغاف
وتُطلان من شرفة الوهم
فوق ذبول الأماني القليلة.
كان متئداً كالضباب على البحر
يُقبلُ شيئاً فشيئاً
ويرقص شيئاً فشيئاً
ويكبُر، يصغُر، مثل اختلاج فاتنةٍ
تتوهّجُ فوق الفُرات
وتنظرُ في مائه ثم تهمس: إني جميلة.
كان حزنك طفلاً تعثّر في لعبه، فاستشاط
وأرخى على كل شيءٍ سدوله
كان شعراً تفجرَ إلا قليلا
فناح عليه انتظارُ القوافي
وما قد تأهّب في الغزل المستسِر المراوغ
للبوحِ في لغةٍ مستحيلة.
فأين هو الآن؟
قد جاء حُزنٌ غريب
يلطخ كل الوجوه وكل القلوب
وكل المعاني النبيلة
جاء حزن الحواة
جاء حزن الطغاة
جاء حزن الرذيلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق