ما مظاهر ما بعد الحداثة عندنا؟
هكذا سألني الصحفي الشاب قبل بضع سنين، وكان من طبعي في مثل هذا الموقف أن أضحك حتى تذهب كبدي إلى رحمة الله.. ولكني أمسكت بزمام نفسي حتى سكت عني الضحك، وتوقفت كل رياحه العاصفة.. ثم قلت له بهدوء: ليس عندنا حداثة حتى يكون عندنا ما بعدها.
ـ كيف يا أستاذ.. وكثير من الكتاب يقولون: إننا الآن نقطف من ثمار ما بعد الحداثة كثيراً من الفواكه.. حتى إن بعضهم قد أقسم على أنه قد اصطاد تمساحا من نهرها المتدفق..
_ يا عزيزنا الحداثة حسب تعريف ماكس فيبر (1864-1920) هي (عقلنة العالم) أي نزع السحر عنه، والمراد بالسحر هنا هو النظرة اللاعلمية إلى الظواهر إنسانية أو طبيعية على السواء.. هو أن نضع الماضي في حجمه ولا نلبسه حلة ضوئية فيها كل ألوان الرغبات والأماني و(الأجنحة المنكسرة) فهل وصلنا إلى هذا المستوى من العقلانية ونحن ما زلنا نسبح في سراب الأساطير؟ ألا ترى بأم عينيك وخالتيهما إلى هذه الفضائيات المتخصصة في تفسير الأحلام وتقسيم الحظوظ وفق الأبراج و.. و..؟!
إن مشكلتنا ليست مع الحداثة وحسب.. بل هي في الذهنية اليقينية التي نتلقى بها مفاهيم الآخر المتطورة.. فبالإضافة إلى جهلنا المظلم بينابيعها التي انطلقت منها فلسفية واقتصادية واجتماعية.. والمستندة إلى مفهوم (القطيعة) بالإضافة إلى ذلك نحن نعتبرها مفاهيم ثابتة.. ومن سمات الذهنية اليقينية التنقل بين المتناقضات دون إحساس بتناقضها.. كما أن من سماتها الاعتماد على زوارق لفظية في العبور من مفهوم إلى آخر.
المشكلة هذه في الأساس مشكلة ثقافية قادمة إلينا من هناك.. من التاريخ السحيق حيث كانت الثقافة كما يقول الراحل محمد عابد الجابري ثقافة (مقابسات) أو من كل حقل زهرة كما يقول القدماء. إن البداهة أو (عدم الروية وإعمال الفكر) والتي مجدها الجاحظ وجعلها سمة مميزة للعرب.. هي داؤنا المزمن والذي أظن أن ابن الرومي عناه بقوله:
غير أن اليقين أضحى مريضا
مرضا باطنا شديد الخفاء
هل نبقى على هذه الحال؟
التاريخ يقول: كلا ولكن (لا بد من صنعا وإن طال السفر).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق