مازلت أتذكر رمضان في الغربة، وأتفهم كيف أن عشرات الآلاف من شبابنا وبناتنا المغتربين من أجل تحصيل العلم النافع يتطلعون ليتحلقوا حول الموائد الرمضانية مع الأسرة.
من تجربتي، الغربة تصبح غربتين في رمضان؛ فلرمضان مزايا كبيرة، ومنها ما هو اجتماعي يلملم الأسر ويزيد عرى التواصل والتقارب، لكن في نهاية المطاف هي تجارب يكتسب منها الانسان معرفة وتجربة أن الأسرة وتجمعها أمرّ عالي القيمة.
يدرك ذلك بقوة عندما يبعد، أي عندما يفتقد أمورا كان يحسبها في حكم المتوافر، ثم يفاجأ عندما يسافر بأنه أكثر ما يفتقد ليس الجو البارد والمناظر الطبيعية الخلابة، بل إنه يفتقد ذاته، التي هي مجتمعه الذي حوله، يفتقده أكثر من أي شيء آخر.
لا أحرص على السفر في رمضان، وأسعى لتفادي الترحال بشتى الوسائل إلا اضطراراً، لكني مازلت أذكر أيام البعثة كيف كنا نواسي بعضنا بعضا بأن نكون سوياً.
بالفعل كنا سوياً وقت الإفطار، كل أسرة تدعو بقية الأسر في دارية منضبطة، لم تكن تقوم على كلافة من أي نوع، لكن على كثير من الاعتداد بإثراء الأجواء الرمضانية لتتغلب على جو الغربة الموحش.
أما عندما يصل الدور لنا فكان الطلب محددا: هريس حساوي، وأذكر ان أحد الزملاء همس في أذني: كيف تطبخون الهريس في المنزل؟
ظننت أن سؤاله للاستفهام، لكن استنتجت أنه سؤال استنكاري، لا سيما حينما صرح: عندنا في مكة المكرمة يبيعونه في محلات مثل الفول؟
فشرحت له أن "الهريس" طبق يطبخ في البيوت ولا يشترى من المحلات، وأردفت: أني أتطلع لليوم الذي أتحرر فيه من ربقة "ضرب" الهريس!
هذه الموائد الرمضانية، أزالت الغربة من حولنا، وفيما بيننا، فأصبحت الروابط أقوى وأمتن.
كنا نصلي جميعاً ونفطر جميعاً ونتسامر جميعاً، وأذكر أنني عندما عدت من البعثة، كيف افتقدت في رمضان الجمعات الرمضانية في وسكنسن، ببساطتها وجمالها، لعل جمالها كان في تنوعنا، وأن كلا منا كان سلوى للآخرين وأهلا.
وأذكر أنه أتى في أحد الأيام مبتعث جديد، وكنا مجتمعين في النادي السعودي، حيث كنا نجتمع في عطل نهايات الأسبوع، حيث تكون التجمعات أكثر شمولاً. جلس منقبضاً، كنت أظن أن هذا بسبب أنه جديد لم يألف الأجواء، فأخذت أحادثه أحاديث عامة، وهو يجيب باقتضاب.
حدثت نفسي أنه خجول ويميل للانعزال، فتركته وذهبت للاطمئنان على استعدادات الإفطار، أذن لصلاة المغرب، ففطر من فطر، وانتظر قليلاً من انتظر، ثم أقام أحدنا.
كان المبتعث المستجد "الخجول" إلى يساري تماماً، فما أن سلم الإمام، حتى التفت سائلاً: أنتم تصلون جماعة واحدة؟ قلت له مستغرباً: نعم فالمكان - كما ترى - واسع، فعقب قائلاً: وهل هذه مجاملة أم صلاة حقيقية؟ أجبته: هذا ليس من شأنك، واتجهت إلى حيث الإفطار.
لمّ الجموع على الحب والمودة أمر، ولمّ الجموع على التكاره والتنافر أمر آخر غير مقبول.
هناك من يريد دائماً أن يتفرد ليس بإنجازات، بل بشعور داخلي أنه مميز، فتجده كأنه قطب "تنافر" مع كل الناس أو شرائح من الناس أو طوائف منهم، وأقطاب التنافر لا يقتصر وجودهم على شعب أو فئة أو طائفة، بل ستجدهم أينما تذهب، ولا أستثني أحداً.
لكن يبقى السؤال: ما الاتجاه الصحيح؟ اتجاه التنافر والتباعد والتمايز؟ أم اتجاه التقارب والتآلف؟
تتفاوت إجاباتنا، بالنسبة لي، لا مكان للتنافر والتباعد والتمايز والتفتت في مجتمع يريد أن يقوي لحمة الوطن ويعززها مع مرور الوقت.
وفي الوقت الذي نجد أصحاب "حزب التنافر" يجهدون لنشر فكرهم قولاً وعملاً، بالمقابل نجد صوت من يرون التقارب والتآلف خافتاً.
عندما أقلب قنوات التلفاز وتغريدات توتير أحن لجمعات رمضان في الغربة، وأجد أن الصوت الأعلى للعقل، والعقل يقول: إن للقوة أسباب ليس من بينها التناثر والفرقة.
كما أن العقل يقول: إن للتباعد موجه، وعلينا أن نقرر إما أن نقاومها أو نسير في ركابها، لكن في كلتا الحالتين لا بد من التفكير بعمق، فسهل أن يتحدث كل عن سوءة أخيه لكن إلى أين سيقودنا ذلك؟
أي ما المآلات التي سيأخذنا لها "حزب التنافر والتباغض"؟ وهل نحن واعون للنتائج؟ أم أننا نسير في طريق التنافر المظلم دون مبرر، ونتخلى عن خيار التآلف والتعايش دون توجس أو تردد؟ ما يرد لذهني أن هناك من يحشر فكر التنافر حشواً في عقولنا ونحن له مستسلمون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق