السبت، 10 مايو 2014

مدارك التطبيع

المساومة على المبادئ الأساسية في أي قضية لا يمكن أن تصدر من خلال مؤمن بثبات تلك المبادئ والقضايا. ومن هذه المبادئ هو العداء مع المشروع الصهيوني الإسرائيلي لأنه مستهدف للأمة بأجمعها ومحتلٌّ لأرضٍ من أراضيها فليس لمنصف أن يشيح بعينيه عن كون القضية الفلسطينية حقاً صريحاً لا يزول مهما هجمت غِيَرُ الزمانِ وطوارقُ الحَدَثان.

ولكن ما يساعد على خفوت شعلة الحق في القضية الفلسطينية هو التهاون واليأس الناشب في النفوس من تخاذل الأنظمة العربية تجاهها و ترويج قوى الإستكبار العالمية للمشروع الصهيوني بشكل جعل التطبيع مع إسرائيل أمراً هيناً في عيون الخانعين و ما هو إلا محاولة قتل بطيئة للقضية الفلسطينية التي ينازعها الموتُ كلَّ يومٍ ثوبَ الحياةِ الخَرِقِ الذي ترتديه .

إلا أنَّ هجمةً شنَّها المغردون في تويتر نابعةً من غضبٍ بسبب تعاون دار نشر عربية مع كاتب إسرائيلي لينشر فكرته التي تدعو إلى “تحسين العلاقة” بين الكيان الصهيوني والسعودية، تعيدنا إلى السبب خلف هذه الغضبة التي جاءت بعد نشر الكتاب وتبين يقظة الوجدان الشعبي تجاه القضية الفلسطينية أمام تسويلات التطبيع مع العدو، فالكاتب يحذر من خطر الجمهورية الإسلامية الإيرانية على المملكة العربية السعودية ويدعو للتطبيع العلني مع الكيان الصهيوني وكمون الخطر في ترويج أمثال هذه الأفكار التي تدعو لقبولنا بهذا الكيان الغاصب تدريجياً، ويبيّن لنا العلّامة شمس الدين كيف أن “مقاومة التطبيع جزء من أيديولوجية الأمة الدينية والقومية ومن هنا فهي لا تحتاج إلى تكوين قناعات. إن مقاومة التطبيع لا تستدعي أن نكوِّن في أمتنا قناعات ليست موجودة عندها، بل نحتاج إلى ترسيخ هذه القناعات وإلى آلية عمل.” و أول آليات هذا العمل هو مقاومة حالة القبول التي قد تنتاب الأمة من وجود هذا الكيان في المنطقة كحالة يومية دائماً لطالما سعى أن ينتزع الاعتراف بمشروعيته كدولة “صهيونية” ترسخ نفسها وقبولها فبالنتيجة التطبيع ليس عملاً سياسياً فقط بل هو يتشعب إلى أكثر من ذلك اقتصادياً وفنياً وثقافياً أيضاً.

إن التطبيع مع العدو الإسرائيلي غيرَ مَشْرِوعٍ بأي شكل من الأشكال بل وخيانةً للقضية والأمة العربية من الأساس وخيانةً للنضال والكفاح الفلسطيني لاستعادة الارض من الكيان الصهيوني الغاصب. فـ” الإلتزام بعداء الكيان الصهيوني ومقاطعته ثابت في نفس الإنسان العربي فضلاص عن الإنسان المسلم ، لم يتغير حتى الآن من الموقف النفسي والضميري عند الناس العاديين ، إسرائيل لا تزال عدواً والمشروع الصهيوني لا يزال العدو لكننا بحاجة إلى تفعليه وتحصينه من الاختراق وإلى تشكيل للأدوات التي يتحرك بها ويتحرك من خلالها في مواجهة خطوات وإجراءات التطبيع “ كما يرى العلامة الشيخ شمس الدين رحمه الله .

وبعد مرور أكثر من ربع قرن على توقيع إتفاقية “العار” بين الكيان الصهيوني ونظام أنور السادات في عام 1970 م والتي سميت “اتفاقية كامب ديفيد”. كنتيجة مباشرة، المعاهدة أضافت صبغة شرعية على وجود العدو الإسرائيلي، بالإضافة إلى إقامة الطرفين “علاقات طبيعية وودية بينهما”.

لقد أحدثت الإتفاقية مفهوما جديداً في السياسة في العالم العربي وهي “التطبيع” مع إسرائيل مما أدى بالطبيعي إلى وجود حركات مناهضة للتطبيع ورفض “إقامة علاقات مع “إسرائيل” ودانت “وجرّمت (معنويّاً) أي اتصال أو تعاون ومن أي نوع كان مع «إسرائيل» كنظام أو مؤسسات (حكومية كانت أو «مدنيّة»)، أو على مستوى الأفراد.

وكمثالٍ على التطبيع ، لكن هذه المرة بشكل ثقافي وهو أشد وطئة من التطبيع التجاري نفسه ما نشرته “دار مدارك” وترجمته كتاب “السعودية والمشهد الاستراتيجي الجديد” للكاتب الصهيوني “جاشوا تيتلبام”. الكاتب الصهيوني في مقدمة كتابه يعبّر عن أمله أن “يؤدي (الكتاب) إلى تحسين العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية”. يعمل جاشوا مستشاراً للدراسات الشرق أوسطية في جامعة بار إيلان، وتتمحور دراساته حول السعودية والسياسات الأمريكية في الشرق الأوسط .

لقد عرَّفَ الكاتب في موقعه الشخصي بأنه يُقيِّم السياسة َالسعودية في الخليج وفي عملية السلام بين العرب والاسرائيليين ويقدم تقديماً ذكياً للعلاقة السعودية الامريكية. وأنه يفضح وجهة النظر التقليدية للسياسة الخارجية السعودية في قلقها حول الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي ويشرح كيف أن القلق الحقيقي يكمن في المعركة الأيدولوجية التي تم فتحها من خلال الضغط الإيراني في الشؤون العربية.

وبلا شك فإن قراءة صحف العدو مهمة ضرورية للمحللين السياسيين والمختصين وصناع القرار لفهم الايدولوجيا الصهيونية وتطوراتها إلا أن خلق تواصل ثقافي تفاعلي معهم بترجمة كتبهم والتواصل مع كتابهم في إطار منزوع من حالة العداء بيننا وبينهم فهذا شأن مختلف.

وقد عرض مترجم الكتاب على دار “جداول للنشر والترجمة والتوزيع” نشر الكتاب لكن الدار رفضت ذلك لعدة أسباب وأهمها “جنسية المؤلف” والتي لم يكونوا على علم بها، وأن القانون اللبناني “يمنع نشر أي كتب لمؤلفين اسرائيليين (كذا)، ومخالفة هذه القانون تعرض الناشر للمحاكمة بجرم مخالفة قرار مقاطعة العدو” بحسب الإيميل الذي سربه الكاتب.

ومما يندى له جبينُ الصخرِ أنْ يدعو المترجم بكل وقاحة للتأمل في كلمة “عدو” من كاتبٍ يراه “باحث ومفكر مرموق يعمل كزميل زائر في جامعة ستانفورد وهي من أهم الجامعات على مستوى العالم كما يعمل كباحث في معهد هوفر الإستراتيجي الشهير!!” في إيحاءٍ إلى أن هذا ” العدو” ليس عدواً هنا !

هذا وتتكثّف في الدول الغربية حركات مقاطعة العدو، كحركة “بي دي اس” على سبيل المثال التي تدعو في حركة مقاطعتها إلى سحب الاستثمارات من العدو الصهيوني وفرض العقوبات عليه. وهكذا خطوة لترجمة الكتاب لا يعقل أن تكون غير محسوبة العواقب فلا يتجرأ دار نشر عربي عليها إلا إذا كان لا يرى بأساً مع العدو الصهيوني أو أن السياق العربي بدا متهاوياً ومتناسياً أن العدو الأول هو المحتل في فلسطين.

على أن صريح القانون السعودي في بيانه يجرم التعامل بأي شكل من الأشكال مع أي شخص يحمل الجنسية الإسرائيلية في “نظام مقاطعة إسرائيل”:

مادة (1) : أ) يحظر على كل شخص طبيعي أو اعتباري أن يعقد بالذات أو بالوساطة اتفاقا مع هيئات أو أشخاص مقيمين في إسرائيل أو منتمين إليها بجنسياتهم أو يعملون لحسابها أو لمصلحتها أينما قاموا وذلك متى كان محل التفاق صفقات تجارية أو عمليات مالية أو أي تعامل آخر أيا كانت طبيعته .

ونجد مبرري هذا العمل من الدار يحتجون بالحاجة والأهمية لمعرفة العدو من قبلنا، ولكنهم ، وياللسخرية، يتعامون و يهمشون تعريفنا بالحملات والأنشطة الشعبية الداعية لمقاطعة إسرائيل مما يُغيِّبُ دفع الشعوب للتعاون معها، ومن هذه الحملات هي “الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل” والتي تدعو لقطع أهم أشكال التطبيع “ تلك النشاطات التي تهدف إلى التعاون العلمي أو الفني أو المهني أو النسوي أو الشبابي، أو إلى إزالة الحواجز النفسية”.

والمفارقة تقع أن هذا ما قام به المترجم من خلال ترجمته لكاتب صهيوني يرشدنا من خلال وجهة نظره للسياسة العربية إلى مسالك التلاقي أو فلنقل مدارك التطبيع، ومن دون الدخول في متاهات تعريفات أخلاقية للتطبيع، فإن أي تصرف أو عمل، مادي أو معنوي، فردي أو جماعي من شأنه طرح أو فرض فكرة وجود “العدو الإسرائيلي” كفكرة طبيعية من شأنه أن يجعلنا نتخلى عن حقوق وقضايا الأمة.

وما هذا إلا عين التطبيع التي يجب أن تُفقأ لأنه ينظر لسياق اختُرعَتْ فيه فلسطين ثانيةٌ غير التي نعرف ، بل فلسطين التي جرت عليها اتفاقيات الشؤم كـ”سايكس بيكو ” و ” كامب ديفيد “. أما فلسطين التي نعرف فهي العربية الحرة من البحر إلى النهر.

ليست هناك تعليقات: