الاثنين، 10 مارس 2014

منهج المتقين عند أمير المؤمنين عليه السلام

بسم الله الرحمن الرحيم
من الأمور المؤسفة التي بنيت عليها المجتمعات الدينية التقوى الزائفة والتقوى الموهومة ، ويرجع هذا إلى فقدان الميزان الصحيح بين الناس في تمييز الصالحين عن غيرهم ، والمتقين عن المدعين أو الواهمين . وهذا يرجع إلى قلة تدبر الناس في القرآن الكريم وإهمالهم لروايات أهل البيت عليهم السلام . وقد يغتر الكثير من الناس بل من صفوة الناس بمعرفتهم بحدود التقوى ، ومفاهيمها وتطبيقاتها النظرية ، كما هو حال الكثير من المدعين للعلم – وما أكثرهم – إلا أن التقوى الحقيقية هي سلوك وعمل وتعامل . نعم ، بداية الطريق لمعرفة التقوى هو التدبر النظري في كلام أهل البيت عليهم السلام ، وفي هذا السياق جاءت محاولتي المتواضعة للنظر في رسالة الإمام أمير المتقين عليه السلام لعامله على البصرة أضعها بين يدي القراء الأعزاء واللهَ تعالى أسأل أن يبلغنا حقيقة التقوى بحق أمير المؤمنين عليه السلام :
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ للهِ، وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى
مدخل : حاول الكثير من علماء المسلمين أن يبتكروا طرقاً عديدة في تربية الإنسان محاولةً منهم للرقي بالإنسان وإيصاله إلى إنسانيته التي يُراد له أن يصل إليها وقصور نظرة البعض منهم كان مدعاة إلى كون المنهج الذي وضعه قاصراً في تربية الإنسان . فما هي أفضل المناهج لتربية النفس ؟
إن نظرة على رسالة سيد المتقين أمير المؤمنين عليه السلام إلى عامله على البصرة عثمان بن حنيف تكشف لنا عن جوانب عديدة في حياة هذا الإمام العظيم تلك الجوانب التي كانت تمثل الجبهة الداخلية بين الإمام ونفسه الشريفة .
أهمية الرسالة : قام الإمام عليه السلام في هذه الرسالة بوضع أسس وقواعد مهمة في تربية النفس مستعرضاً أسلوبه الذي اتخذه مع نفسه الشريفة وكيفية انعكاس هذه التربية على شخصه الشريف وأهمية تحديد مستوى التربية بملاحظة المسؤولية التي يتبوأها الإنسان . هذه وأسباب أخرى تجعل هذه الرسالة بغض النظر عن مقام كاتبها خير كتاب ومنهج لتربية النفس .
الرسالة : هذه الرسالة بشكل موجز هي كتاب أرسله الإمام عليه السلام إلى عامله على البصرة عثمان بن حنيف حينما لبى وليمة كان قد دُعي إليها . سنحاول في هذا المختصر أن نستعرض أبرز النقاط التي يمكن أن نعتبرها طرقاً لتربية النفس وإكسابها التقوى :
1-  أشار الإمام عليه السلام في بداية هذه الرسالة إلى أهمية التفقه في الدين باعتباره الجسر الأساس الذي يوصل الإنسان إلى بر التقوى فقال لعثمان بن حنيف بعد أن استعرض أنواع الضيافة التي تقدم لعامله : ( تستطاب لك الألوان وتنقل إليك الجفان ) قال له عليه السلام : ( فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم فما اشتبه عليك علمه فالفظه وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه ) .
2-  ثم نبه الإمام عليه السلام إلى أهمية القدوة في حياة الإنسان الذي يريد أن يرتقي بنفسه إلى سماء التقوى فهو يحتاج إلى من هو أعرف منه بأسرار النفس حتى يتجنب مزالق الهوى فقال : ( ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه )
3-  ثم شرع عليه السلام في سرد صفات هذا القدوة وكيف ينبغي أن يكون من خلال ذلك يشير إلى منهجه الشريف في تربية النفس : ( ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه ) والإتيان بوصف الإمامة في هذا النص الشريف فيه إشارة إلى النسبة والتناسب بين حجم المسؤولية ومستوى التربية النفسية . لذلك قال الإمام عليه السلام : ( ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد ) حيث أن مقام الإمامة وحجم مسؤولية الإمام لا يقدر عليها بشر إلا من رحمه الله تعالى .
4-  يعود الإمام عليه السلام إلى سرد المنهج الصحيح في تربية النفس قائلاً : ( فوالله ما كنزت من دنياكم تبرا ولا ادخرت من غنائمها وفرا … ) واصفاً مقدار زهده وسبب زهده بقوله : ( وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى ) والهدف هو ( لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر وتثبت على جوانب المزلق ) .
5-  نعم الزهد لا يكون إلا عن شيء تقدر عليه وهذا تنبيه مهم واختبار صعب وليس الزهد عمّا لا تقدر عليه لذلك قال الإمام عليه السلام : ( ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل … ) والمانع عن مدّ اليد هاهنا هو ( هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة ) .
6-  وقد يظن البعض أن الإمام عليه السلام كان يحرم على نفسه ما أحل الله له من طيبات الطعام ! ولكن الحقيقة أن الإمام في صدد الإشارة إلى حجم مسؤولية القيادة في المجتمع التي كان يتولاها فيقول : ( ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في قرص ولا عهد له بالشبع … أأقنع من نفسي أن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر … ).
7-  ثم يشير الإمام عليه السلام إلى كيفية رقي التقوى والسيطرة على النفس بالإنسان فيقول : ( فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها أو المرسلة شغلها تقممها … ) .
8-  وينبه الإمام في رسالته إلى أن التقوى الحقيقية هي التي لا تضعف الإنسان عن واجباته بل هي محفز ودافع للإنسان نحو الثبات على مبادئه : ( وكأني بقائلكم يقول إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان . ألا وإن الشجرة البرية أصلب عودا … وأنا من رسول الله كالصنو من الصنو ) وهذه العبارة الأخيرة فيها إشارة إلى كون المنهج الذي سلكه أمير المؤمنين عليه السلام لم يقعده عن أداء واجبه تجاه حماية الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، بل إنه يترقى ليقول بأن هذا النمط من المعيشة الذي اتخذه لا يضعفه عن مواجهة كل العرب : ( والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها ) والسبب في ذلك كون التقوى وتربية النفس عامل مقوٍ للإنسان لأداء وظائفه لا مضعف ولو كان مضعفاً لكان منهج التربية الذي يتخذه الإنسان مصاباً بالخلل فيحتاج إلى مراجعة .
9-  ويختم الإمام عليه السلام رسالته الشريفة بالإشارة إلى “بعض” طرق إيصال النفس إلى التقوى فيقول : ( طوبى لنفس أدت إلى ربها فرضها ، وعركت بجنبها بؤسها وهجرت في الليل غمضها … )
خاتمة : من الواضح أن لكل نفس بشرية أسلوب وطريقة معينة في التربية والتعاطي مع الرغبات والأهواء  تختلف باختلاف قدرات الشخص والظروف المتاحة له التي ينبغي عليه أن يراعيها حين تربية نفسه وإلا فستكون العواقب وخيمة على الشخص نفسه وعلى المجتمع الذي يعيش فيه إذ سوف يكون عضواً ضاراً في المجتمع لا نافعاً .
اللهم ألهمنا التقوى ووفقنا للتي هي أزكى
السيد علي النمر الموسوي

ليست هناك تعليقات: