في ظل التحولات التاريخية التي تمر بها منطقة الخليج على الصعيدين الإجتماعي والإقتصادي يأتي الأستاذ محمد الحرز أحد المساهمين في خلق مناخ ثقافي وأدبي مغاير في منطقة الأحساء وهو الحاضر في المحافل الخليجية والعربية ثقافة ونقدا محمد الحرز لديه وجهة نظر أخرى حول فشل أصحاب المشاريع العربية وهو إهمالهم الجمالي من دراساتهم وحفرياتهم المعرفية في أظابير التراث العربي والإسلامي .
يأتي دور المثقف في هذه المرحلة للخروج من حالة الهويات القاتلة إلى الهوية الإنسانية المطلقة كما مثلها ابن عربي وهي حالة المثقف مابعد اللامنتمي التي هي عودة للهويات الأصلية ولكن بصورة وصيغة إنسانية:
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة ٍ
فمرعى لغزلانٍ فديرا لرهبان
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
وهي المرحلة التي يصل فيها الإنسان إلى التآلف مع كل شيء هي مرحلة النيرفانا الصفرية التي ينتمي فيها الإنسان للجمال والمطلق الكوني بل حب الحياة
لايمكن الإنعتاق من قيد الجماعة بالكامل وتأملاتها الكونية وهذا أشبه بنظرية المثل الهوية هي تلك الحقيقة التي يرى بها اللامنتمي الظلال فقط ويبحث عن ماهيتها بكل ما أوتيَ من ثقافة وعتاد معرفي
لا يستطيع الإنسان مهما أوتي من قوة الخروج على سلطة الهوية أن يتخلى عنها بشكل نهائي لأنها تظهر بشكل مضمر في السلوك الإنساني
هذا الشاعر جاسم الصحيح يؤكد مقولتي :
لاتبحثوا وسط رحلي عن مآربكم
فما هناك صواعٌ بين أمتعتي
إلى أن يقول:
لاحبل أعقد آمال النجاة به
إذا الهوية أضحت بأر هاويتي
ربما لا ألوم الشاعر جاسم الصحيح فهو انعكاس لكل شيعي في منطقة الخليج يشعر بإلتباس الآخر تجاه هويته .
نفي النفي هو إثبات لإنتماء أشمل وأوسع من جماعة ضيقة بالرغم من خصوصية جمعية لهذا التراث ولايمكن التخلي عن تلك الخصوصية بالكامل
حينما كان المؤرخ الإغريقي هيرودوت ماقبل الميلاد( 484 ق.م - 425 ق.م ) يتجول بين الحضارات كما يذكر صاحب المناحات العظيمة وقد مر بحضارة مابين النهرين فوجدهم يؤدون طقوس المناحة على الإله تموز حيث كانت عشتار رمز الخصب كما تقول الأسطورة تبكي على الإله تموز وقد وجدهم يؤدون تراجيديا هذه المناحة ويمثلون المعركة وكانوا يقولون لهيرودوت لايموت أحد من هذه الطقوس
يقول صاحب المناحات العظيمة ((إن المساهمة في تقديم رؤية كاشفة للبعد التاريخي , وتبيان إمكانية أن نعيد نحن المعاصرين , صياغة أفكارنا بصورة جذرية عن طبيعة ممارستها , ولكن دون أية مزاعم أو تصورات مسبقة وعدائية . إن إعادة بناء الرواية التاريخية لقصة استشهاد الحسين , وتخليصها من الأهواء والمبالغات والإساءات , وربط طقوس النواح بالثقافة البكائية القديمة والطقوس والممارسات الدينية عند الطوائف لا طائفة بعينها ))
يأتي دور المثقف الذي قدم مواقفا تليق بالمجتمع من خلال دفاعه عن حرية الفكر والمعتقد وإدانة كل أشكال العنف والكراهية وأخص بالذكر فاجعة قرية الدالوة التي راح ضحيتها 8 أبرياء و9 جرحى ضحايا التطرف والإرهاب أعزي ذوي الشهداء في الأحساء الذين ذهبوا ضحية العنف الديني وقد كانوا يمارسون طقوس العاشر من المحرم رغم كل الإدانات والتصريحات والمقالات التي تناولت الحدث بآنيته إلا أن الحدث أكبر من ذلك بكثير ويحتاج إلى إعادة قراءته من خلال الهوية مفهوما وعلاقتها بالتاريخ والدولة وعلاقة هذه الهويات بالهويات الغربية الأوربية المعاصرة , إن ماحدث في الدالوة هو عنف من النوع الديني اللاعقلاني كما يصفه جيرار
لاشك أن هناك أزمة في الخطاب الشيعي المحلي الذي يحتاج لمراجعة مخرجاته وحراكه في المجتمع والذي بدأ ببيان المثقفين الشيعة ولم ينتهي عنده
ضيفنا ياسادة منذ أكثر من عشرين سنة وهو يحاول النهوض بالمجتمع الأحسائي ويشاركه همومه وهواجسه ولا يستنكف من المشاركة بفكره التنويري في محافله الدينية إيمانا منه بأن الحالة الجمالية تتعالى على القوالب التي وضعها الإنسان لذاته أن نقد الأفكار لا يعني نقد الظواهر الميثولوجية والفلكلورية للمخيلة والذاكرة و((العقلانية لاتعني تقويض الطقوس وعلى أنقاض وهدم الشعائر الدينية في أي دين كان أو مذهب)) بل يذهب إلى(( أن التنوير في مساره التاريخي لم ينهض خطابه العقلاني على نقد أشكال الطقوس الدينية السرية التي عمت أوروبا القرون الوسطى إلى حدود القرن التاسع عشر والتي كانت في نظر الكنيسة مجرد طقوس وثنية لاتنتمي للتراث المسيحي وكانت بوصلة النقد توجهت إلى الكتاب المقدس العهد القديم والجديد )) ويرى أيضاً أن ((الترابط البنيوي لاينفك يحذرنا من الإنزلاق في وهم تبني عقلانية تذهب بوصلتها باتجاه مجال واحد والتركيز عليه وترك ماعداه من باقي المجالات الديني على سبيل المثال الذي يطرح هذا السؤال الوجيه هل العقلانية في الجانب الديني تتركز في مجال حياتنا في المظاهر والطقوس أم المترسخ في النفوس من اعتقادات وتصورات حول العالم والإنسان والطبيعة أم في السلوك الأخلاقي العملي )) الحرز يشير إلى الدراسات الميثلوجية التي قام بهاجيمس فريزر وأستفاد منها فرويد ويونغ في التحليل النفسي ودراسات علم الإجتماع الديني التي ساعدت على تحليل الظاهرة الدينية عند الإنسان تبقى المناهج المعرفية في حيز النسبية وتصبح دوغما إذا تزمت بها أصحابها في مقابل التصورات الميثلوجية والغيبية وهذا يعيدنا إلى الفيلسوف
مارسيا إلياد ورؤيته حول الإنسان غير الديني أنه ينحدر من الإنسان الديني والإنسان غير الديني ليس ظاهرة جديدة في تاريخ الثقافات وهذا الأخير لايزال دينياً من دون علم منه بذلك في ممارساته اليومية واحتفالاته بل هو يبتكر مظاهر دينية وطقسية جديدة " الغالبية العظمى من الذين لادين لهم ليسوا متحررين تماما من المسلك الديني , من اللاهوت والميثولوجيا " وهو يشير إلى المضمر في اللاوعي واسقاطه المظاهر الدينية على الإنسان الحديث من ممارسات كما يصفها ميثولوجيات مموهة في السينما والكتب التي يقرؤها
الحرز المثقف العابر للنظريات والأفكار الذي يجترح الروابط الجمالية والمعرفية في قراءاته , وهو المتمرس في تفكيك المفاهيم الغربية وتحليلها سننصت له وهو يتحدث عن الهوية والتباساتها وعلاقتها بالواقع الهوياتي المقارن ومدى ارتباطها بالمخيلة الجمعية التي ساهمت في اندماج الإنسان في المجتمع وحققت شعوره بالجماعة من خلال روابطها العاطفية .
استمرارية التاريخ وانتفاء الدولة محمد الحرز
بمثابة تمهيد :
أعلم تماما خطورة المنعطف التاريخي الذي تعيشه حاليا الحياة العربية كأفراد ومجتمعات ودول . هذا المنعطف التاريخي الذي تتسم أحداثه ووقائعه بوتيرة متسارعة , لا يمكن معها , أن يلتقط الباحثُ أو المفكر أنفاسه كي يفهم – على سبيل المثال- هذا الحدث ويحلل تداعياته, إلاّ ويأتي حدث آخر , يدخل على خط المنعطف, ليفرض تداعيات جديدة, ويفرض أيضا قراءة جديدة للحدث القائم .
هذا المنعطف الذي بدأ – من وجهة نظري- بقيام الثورة الإيرانية عام 79م مرورا بالعديد من الأحداث الكبرى , كتفكك الاتحاد السوفيتي , وانتشار الموجة الرابعة من الديمقراطيات في أوروبا الشرقية , وكذلك أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما صاحبها من تداعيات , إلى اندلاع الثورات العربية عام 2011م , حيث لا زال الحبل على الجرار, والأحداث تجر أحداثا أخرى .
إن كل هذه الأحداث جرت في غضون ثلاثة عقود أو أكثر قليلا , حيث نتائجها الكارثية على شعوب المنطقة كشفت عن أزمات عديدة . لكنني هنا في هذه الورقة حصرتها في اثنتين :
أزمة علاقة بالماضي بوصف قيمه ثابتة لا تتحول .
أزمة علاقة بالدولة وأثرها الواضح ليس على الصعيد المادي وإنما أيضا أثرها على صعيد اشتغالات الفكر وإنتاج خطاباته.
وسوف أتناول كلتا الأزمتين في حدود ما يتعلق بأثر كل منهما على موقع الهويات في سياقها الاجتماعي والثقافي والسياسي .
قبل أن أشرع في قراءة الورقة التي أمامي أريد التوقف قليلا عند جملة من الملاحظات التي تتصل بالأفكار الواردة فيها .
أولا- سبق أن تناولت بعض هذه الأفكار فيما كتبته من مقالات متفرقة تصب في ذات التوجه والمنحى للموضوع .
ثانيا- لا تطرح هذه الأفكار حلولا حول القضايا التي تتناولها , ولا رؤية متكاملة , ولا تترصد منهجا معينا في التحليل , جل ما تسعى إليه هو فهم الظواهر التي تتناولها فهما يوسع من نطاق الحوار حولها , ويجدد الأسئلة التي تتعلق بها .
ثالثا- استمرارية التاريخ , وانتفاء الدولة الواردان في العنوان لا يشكلان مصطلحين منتزعين من إحدى حقول العلوم الإنسانية , بل هما أقرب ما يكونان تعبيرين مجازيين , يشيران توصيفا إلى الحضور الطاغي لأحداث الماضي كمعيار يقاس عليه الحاضر بالنسبة للأول , وبالفراغ السياسي الذي تسببه ضياع بوصلة في طريق الدولة الحديثة بالنسبة للثاني.
رابعا- حول مفهوم الهوية دعا كثير من الباحثين في العلوم الإنسانية إلى التخلي عنه بسبب الالتباس والغموض والتعقيد الذي طاله, وكثرة استخدامه بدلالات متناقضة في أغلب الأحيان, وقد اقترحت الباحثة مرجريت سامرز مفهوم السرد بدل الهوية , لأنه الأكثر تحديدا للكينونة الثقافية للجماعة بينما الهوية بشكل عام هي حركة منفتحة على التحول والتبدل قائمة على استراتيجيات ينفذها فاعلون اجتماعيون واقتصاديون وسياسيون , وذلك في ظرف زمني محدد . لقد حصر روجرز بروبكر وفريدريك كوبر في كتابهما " ما وراء الهوية " خمسة أوجه دلالية لاستعمال مفهوم الهوية في العلوم الإنسانية, وسأذكر واحدا منها لأنها ترتبط بالافتراض الذي تتبناه الورقة عن مفهوم الهوية. وهو " الهوية بوصفها ظاهرة جمعية دالة على وجود تشابه بين أعضاء جماعة ما , حيث يتيح هذا المعنى في المفهوم للباحث توقع وجود تشابه سيتمظهر في تضامن أعضاء الجماعة , وفي طرق تصرفهم وملامح وعيهم المشترك " .
(1)
تحت تأثير فكرة غياب الدولة الحديثة عن تاريخ المشهد السياسي العربي التي تتبناها الورقة , سأناقش حالتين لهما ارتباط وثيق بفكرة الغياب تلك .
الأولى طبيعة الاصطفاف السياسي
الثانية مآلات الفوضى
أولا- طبيعة الاصطفاف السياسي المتمثل في المواقف والآراء عند الكثير من الناس حيال الأزمات التي تعصف بالوطن العربي وقضاياه , يدل على غياب تام لفكرة الدولة في التصور والذهن, مما يؤثر بالتأكيد على تلك المواقف والاصطفافات , في الحياة العامة لدى هؤلاء , وعلى علاقاتهم الاجتماعية , ويصبغها بقناعات تنسجم تماما مع دلالة مثل هذا الغياب .
والسؤال الذي أود طرحه الآن : ما وجه العلاقة بين طبيعة هذا الاصطفاف وبين فكرة الغياب ؟ وقبل هذا وذاك ما المقصود بفكرة الدولة هنا؟
لم يكن الفكر السياسي العربي في أي طور من أطواره , يحمل فكرة واضحة عن الدولة كما تشكلت في الغرب الحديث. وعدم الوضوح ناتج من أسباب عدة هي :
أولا- على مدار قرون عديدة , ترك العثمانيون المجتمعات العربية الانطواء على أنفسهم من خلال تعزيز هوياتهم الدينية والمذهبية والإثنية , ولم تسع إلى الربط فيما بينهم برباط اقتصادي أو ثقافي على الأقل , بل كل ما عملته شيئين اثنين فقط هما: جمع الضرائب والخدمة العسكرية . لذلك لم تكن توجد حدود في ذهن العربي بين منطقة وأخرى في المشرق العربي, ولم يكن يعترف بها أيضا , عندما قسم الاستعمار المنطقة وفق منطق الدولة – الأمة الغربية.
ثانيا – العقدة التي سببها الاستعمار للذات العربية , بحيث وجدنا مفاعيلها سارية حتى بعد أن انحسر الاستعمار نفسه عن المنطقة. فلم يكن المثقف أو المفكر أو السياسي ينظر إلى خصومه أو يخاطبهم إلا من خلال بعبع الاستعمار ودوره التآمري المضخم بصورة كاريكاتورية في أغلب الأحيان , بالخصوص بعد زرع الدولة الصهيونية في قلب فلسطين .
ثالثا- ما عمق هذه العقدة لا حقا , هو أن اليسار العربي بدل أن يسعى إلى تصور دولة ذات قيم اقتصادية تتيح لها الاندماج في السوق العالمي , ناهيك عن الاهتمام بالصحة والتعليم والثقافة , راح يتبنى النظريات اللينينية التي أعادت إلى الواجهة الاستعمار الجديد في حلة جديدة , وقد أسمته الإمبريالية . الأمر الذي أبّد فكرة الاستعمار بوصفه العدو الوحيد , ووسّع الهوة بين التجربة العربية في بناء الدولة وبين جيرانها الآسيويين .
رابعا- القوميون العرب حين تبنوا نظرية الدولة- الأمة على قرار ما طرحه القوميون الألمان ( المفكر فيخته بالخصوص) كان التشابه بينهما كبيرا, في مواجهة الإرث الاستعماري, الأول الاحتلال البريطاني والفرنسي في القرن العشرين , والآخر احتلال نابليون في القرن التاسع عشر. لكن الفرق بينهما تجسد في العلاقة التي أقاموها بين الدولة من جهة والأمة من جهة أخرها . فأبرز منظري القوميين العرب الذين أثروا لا حقا في بناء الدولة(ساطع الحصري ) أعلو من شأن وحدة العنصر اللغوي دون أن يهتموا بباقي العناصر الأخرى من قبيل وحدة الاشتراك في الجغرافيا أو وحدة الحياة الاقتصادية على سبيل المثال , وأصبح بهذا المعنى " حدود الأمة هي حدود لغتها " مما يعني غياب مفهوم الوطنية ضمن منطق وحدود الدولة على اعتبار أن هذه الوطنية تشمل الاندماج والتكامل الاجتماعي ضمن المجال السيادي للدولة . بينما القومي الألماني أعتمد على منظور عرقي في تشكيل هوية الدولة , ساعده في ذلك الإرث الأوروبي المشترك الذي تمخض عن عصر النهضة وعصر الأنوار.
لأجل هذه الأسباب , وأخرى غيرها كان الأثر كبيرا على فكرة الاصطفاف, وبالتالي أثرها على تغييب منطق التحليل العقلاني للسياسة في إطار مفهوم الدولة. فالمراقب للأحداث السياسية وأزماتها الحالية يلاحظ أن المسار الاصطفافي الذي يجتمع حوله الكثير من السياسيين والكتاب والمحللين والمثقفين العرب يتسم بفكرة مرجعية واحدة , وهي حضور جبروت المستعمِر ( بكسر الميم ) إزاء ضعف المستعمَر ( بفتحها ) , وعليه لا يخلو تحليل أو نظرة إلى تلك الأحداث , إلا وكانت هذه المرجعية إحدى الروافع الكبرى التي تُبنى فوقها المواقف , وترسم من خلالها العلاقات . لذلك يسمي الكاتب حازم صاغية هذه الحالة سياسة ضد السياسة.
وإذا كانت الشام وفلسطين والعراق والأردن هي الحواضن الكبرى التي جرى فيها هذا النوع من المسار الاصطفافي , بحيث أعطته سمته العامة التي يتسيج بها , فثمة أيضا اصطفاف آخر, مساره مختلف عن الأول, يرتبط أولا وأخيرا بمجتمع الجزيرة العربية . فمنذ قيام الدعوة السلفية الإصلاحية للشيخ محمد بن عبدالوهاب , في القرن الثامن عشر , على أسس من قبيل إخلاص التوحيد لله تعالى , وفتح باب الاجتهاد , ومحاربة التقليد الأعمى باتباع الكتاب والسنة , وأثرها الذي تركته على باقي الحركات الإصلاحية كالسنوسية في ليبيا أو المهدية في السودان , لم يكن الاستعمار كثقافة وواقع قد تسلل إلى الجزيرة العربية بخلاف تلك الحركات الإصلاحية الأخرى التي استوطن أرضها الاستعمار بعد احتلالها. ولم يكن يشكل أيضا عقدة للذات – كما رأينا سابقا- داخل مجتمع الجزيرة بعدما قامت الدولة السعودية وترسخت مؤسساتها في قلب المجتمع. لكن المؤكد أن غياب هذه العقدة , لا يعني عدم وجود ما ينوب عنها , في الوظيفة أو الأهداف. فقد تضخمت الهويات المتنوعة للفرد (الدينية والمذهبية والقبلية والمناطقية ) , من فرط ما امتلأ بها المجال العمومي للمجتمع . ورغم أنها لم تتحول إلى عقدة كما في حالة النوع الأول من الاصطفاف السياسي , إلا أن هذه الأخيرة لم تنسحب في تأثير عقدها خارج المجال السياسي وقضاياه, بل ظلت داخل حدودها ومسيجة بإرثه الطويل , بينما الحالة الأولى كان التضخم للهويات فيها ُيفسر بها كل المواقف السياسية وغير السياسية : الاجتماعية والثقافية والاقتصادية , وحتى الموقف من الأحداث التاريخية يعاد إنتاج قراءتها من خلال هذه الهويات. الأمر الذي أفضى في كثير من الأحيان إلى سوء فهم في الخطاب السياسي العربي , بين نظرتين كل واحدة منهما لها مرجعياتها المختلفة , في تصورها للأحداث السياسية ذاتها . سوء الفهم الذي نعنيه , وبالتالي يمكن حله بالحوار , ينطبق بالأساس على عموم جمهور المجتمع العربي, على اعتبار مواقفه أغلبها ترتكز على البراءة والبساطة, أما النخب المثقفة فهي غير بريئة , بحسبان مصالحها , أو بحسبان مواقفها السياسية.
ثانيا- مآلات الفوضى :
مفردة الفوضى تعني هنا بكل بساطة غياب النظام وهو في تجلياته المادية يعني الدولة وسيادة القانون والمؤسسات, يعني التخطيط والتنظيم لمستقبل واضح في الأذهان والعقول. يعني التصالح مع الماضي , ونبذ خلافاته , وأخذ ما وافق منه لبناء المستقبل, يعني التحلي بروح المسؤولية الأخلاقية والتفكير المنهجي, وسوف أنتخب مثالا واحدا, أستله من حقل الدراسات السياسية الفكرية المقارنة لأدلل على الرابط الوثيق بين غياب النظام من جهة وهشاشة التفكير السياسي من جهة أخرى. وسأبين ذلك بالسؤال التالي: لماذا في الخطاب السياسي الفكري الغربي تعالج قضايا الأقليات العرقية والإثنية والقومية ضمن دائرة مصطلح " التعددية الثقافية " بينما في الخطاب السياسي الفكري العربي لا تجد سوى مصطلحات ومفاهيم اختزالية وتبسيطية تحجب قضاياها بالقدر الذي تسعى إلى توضيحها كمصطلح الطائفية ؟
هل تقع اللائمة على تاريخ الغرب السياسي الذي قسم الأوطان ثم وطد هذا التقسيم بخطاب استشراقي أغلب مصطلحاته السياسية يتلاءم وهذا التقسيم كما يعتقد بعض المفكرين السياسيين؟ أم تقع اللائمة على السياسيين العرب الذين استثمروا الثغرات التي خلفها هذا التقسيم , لتوظيفه لاحقا سياسيا؟
لنخرج من هذه الثنائية التي استنفدت طاقتها, إلى ما أظنه أكثر منهجية من خلال المقارنة التاريخية كي نجيب على السؤال السابق.
ربما من البديهيات, التذكير أن مشروع بناء الدولة- الأمة أو الدولة القومية في أوروبا كان بناء تراكميا , قام بعد صراع مرير مع مشروع آخر هو مشروع الرابطة المسيحية(أساسه فكرة طرحها القديس أوغسطين) والذي يعني في جوهره ربط المجتمعات الأوروبية دينيا وسياسيا بسلطة الكنيسة .الأول بقيادة أمراء وملوك أوروبا , والآخر بقيادة البابا . ومع نهاية القرون الوسطى بدأت تظهر ملامح هذا البناء بعد تراجع هيمنة الكنيسة ومشروعها, ومن أهم العوامل التي ساعدت على قيام هذا البناء:
هي بروز فكرة الحدود ضمن نطاق سلطة الملك أو الأمير بموازاة القضاء على سلطة الإقطاعيين من طبقة النبلاء.
ضم الأقاليم المتجانسة إثنيا ودينيا تحت سلطة واحدة.
ربط الأطراف بالمركز من خلال إنشاء مؤسسات ودوائر كأنظمة الشرطة والبنوك والضرائب.
صعود الليبرالية وانتشارها في أوروبا الغربية. وعندما نضجت هذه العوامل احتاجت الدولة إلى عقيدة مشتركة تشد أفرادها إلى أفق إيديولوجي واحد.
وكانت القومية هي الهوية الثقافية التي تأسست عليها الدولة, رغم اختلاف مسيرة تشكلها بين الألمان وبين الفرنسيين وبينهما وبين الإنجليز. لا حقا عندما انتقلت المجتمعات الغربية منذ تسعينات القرن المنصرم إلى ما يعرف في الأدبيات الفكرية بمجتمعات ما بعد الحداثة, برزت تصدعات في هذه الدولة وثغرات لم تكن سابقا تظهر.من أهمها بالطبع انبثاق الهويات الثقافية للأقليات.هذه المشكلة بعدما خلقت حروبا عرقية وطائفية كحروب البلقان, طرح الفكر السياسي الغربي الليبرالية الفردية كأزمة تعاني منها الدول الأوروبية ,وقد تعددت الحلول حيث كانت الليبرالية الاجتماعية هي القاعدة التي انبنت فوقها مناقشة أزمة هذه الهويات. مصطلح التعددية الثقافية (multiculturalism) جاء ضمن سياق هذه المناقشة.وجرى استخدامه باعتباره تعبيرا عن التنوع الثقافي للمجتمعات, ويراد به- حسب بعض النظريات- " التعايش داخل نطاق المجتمع السياسي ما بين الجماعات المتمايزة دينيا أو إثنيا أو عرقيا التي يرى أعضاؤها تبايناتهم الثقافية عن غيرهم من زاوية كونها تشكل عناصر رئيسية في هويتهم".هذا التعريف لم يكن نظريا بل هو نتاج نظر سياسي قائم على أرض الواقع, متولدا منه بالقدر الذي هو ينظمه في الفكر ويؤثر على رسم سياساته واقعيا. هذا النظر قائم على "فكرة اقتسام السلطة ما بين الجماعات الثقافية في مجتمع ما على أساس المساواة والعدالة الثقافيتين" وذلك ضمن حيادية الدولة .هذا التساوق والانسجام بين الفكر والممارسة في الخطاب السياسي الغربي هو عبارة عن تاريخ من التراكمات الموضوعية التي لا تحتاج إلى قطيعة بين ماضيهم وحاضرهم بقدر ما كانوا يحتاجون إلى نقد تصحيحي من الداخل يتوافق وظروفهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية التي يخضعون لها من العمق.
بالمقابل مصطلح الطائفية مثل كل المصطلحات التي تدخل دائرة التفكير السياسي العربي يعاني ولا زال سوء الفهم والتشويش.
أولا- لم يجر التمييز بين ما يعنيه التعصب والانغلاق في ارتباطه بالطائفية وبين ما تعنيه العصبية في ارتباطها بالطائفة أو الجماعة. المعنى الأول حديث الظهور ومعاصر وهو وثيق الصلة بتشكل دولة ما بعد الاستقلال , وبتشكل الاحزاب والتيارات السياسة التي تستمد عقيدتها الإيديولوجية من الموروث الديني, وتتضمن دلالتها حكما تبخيسيا , بينما العصبية تقليد موروث في التاريخ الإسلامي لا يتضمن حكما معياريا وجرى ذكره في القرآن بهذا المعنى.
ثانيا- في القرن الرابع الهجري حدثت إزاحات , فأصبحت لفظة الطائفة تحمل في داخلها مضامين سلبية وقدحية بسبب ما أشار إليه المؤرخون من ضعف الدولة العباسية وترهل سلطتها لصالح إمارات الأطراف المتغلبة أو بما يفيد التشرذم مقابل الوحدة على حد تعبير عزمي بشارة.
ثالثا- هذا التطور لا يؤخذ في الحسبان حين يتم التطرق إلى الطائفية, لذلك عُدّ الطائفي هو كل شخص ينتمي إلى هذه الطائفة أو تلك دون التفريق بين الأشخاص الذين يتبنون فكر وعقيدة الطائفة ويدافعون عنها بخطاب فكري ومنطق صارم , وبين الأغلبية الذين هم لا يرتبطون بطائفتهم سوى بالاسم أو بتقاليدها الشكلية فقط . لكنهم عادة ما يكون لديهم قابلية للتجييش الطائفي ضد الآخر. فالأول هو طائفي بامتياز بينما البقية المجيشون ليسوا كذلك .
رابعا- سياسة عدم التمييز التي تم استثمارها من طرف السياسيين أثرت على تطور المصطلح في الدراسات الاجتماعية والفكرية من جهة ,وأفرزت بديلا عنه أدبيات ما قبل الطائفيين , أي أدبيات التكفيريين . وهذا مثال واحد هو نتاج ما أدعوه هنا بمآلات الفوضى .
(2)
في الحقل التاريخي للدراسات المنهجية هناك نوعان للتاريخ حسب المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف : تاريخ الذاكرة الجماعية وتاريخ المؤرخين والباحثين. الأول أسطوري بالأساس يختص بالثقافة الشفوية ورموزها الاجتماعية والثقافية والأدبية والدينية, وتجلياتها في سلوك وشعور الفرد والجماعة وأهم سمة تمتاز بها هي قدرتها على خلط الأزمنة , بينما تاريخ المؤرخين هو تصحيح للأول , ومحاولة جادة لفك هذا الخلط من منظور علمي ومنهجي ,يراعي المؤرخ من خلاله الفصل التام بين قضايا وأزمات تتصل بالماضي, وأخرى تتصل بالحاضر والمستقبل.
انطلاقا من هذا التقسيم للمؤرخ الفرنسي سأتناول نماذج عدة تتصل بكلا النوعين من التاريخ .
أولا – تاريخ خلط الأزمنة
مثال (1)
قضايا من قبيل هذا الصحابي كان تاريخيا أفضل من ذاك , أو العكس , وذاك أكثر إيمانا من هذا ,إلى آخر ما يتم طرحه من هذا القبيل, وقد يرتبط بصيغة التفضيل هذي مسائل في الفقه والعقائد والأصول وعلم الكلام, هي بالمجمل مسائل تحتل مساحة شاسعة من اهتمام الناس وأحاديثهم في المجالس وعبر شبكات التواصل والفضائيات والإعلام المكتوب.حيث يأتي هذا الاهتمام على خلفية سجالات مذهبية , لا ترق في مستواها إلى حوارات تتوجه إلى الخطاب المعرفي ,وتكون أمينة له , وحريصة على ألا يخرج من إطار أهدافها الثقافية الباحثة عن الحقيقة التاريخية فقط.هي ليست كذلك , بل هي تشكل ظاهرة تأخذ أبعادها من طرفين مرنين ,عادة ما تكون تحت شروط ضغطهما , وتحولاتهما وتقلباتهما في السياسة والاجتماع والثقافة. الطرف الأول تقلبات السياسة في المنطقة , ورسم التحالفات فيها يعطي مؤشرا على نوعية التحالفات الدينية والمذهبية والقومية بين شعوبها,بينما الطرف الآخر هي الذاكرة الجماعية التي توضع على مشرط تلك التقلبات , بحيث يستدعى منها تلك الأفكار والمقولات التي تنسجم مع ما يعزز الخطاب السجالي أو المذهبي, ويؤخر منها ما يناقض تلك السجالات في توجهها أو نتائجها.
والملفت للنظر , وبمقارنة بسيطة بين ماضي السجالات المذهبية في الموروث الإسلامي , وحاضرها الآن نكتشف ملاحظتين مهمتين : الأولى الجهل المركب الذي يحوم حول وعينا بالتاريخ مقارنة بالذين كانوا يتصارعون ويتساجلون مذهبيا – على سبيل المثال- في القرن الرابع الهجري . فرق الزمن والقرون ينبغي أن يسجل للأجيال اللاحقة , بحكم تطور المعرفة وتراكماتها والمجتمع وتحديثاته, فالإحساس بتطور الزمن هو في قلب المجتمعات الحديثة . لكن للأسف مظاهر السجالات التي تدور الآن تكشف عن هوة عميقة في فهمنا للزمن وتطوراته تاريخيا , وهذا ما يفضي بنا إلى الملاحظة الأخرى التي تتعلق بخلط الأزمنة باعتبارها تشويها , مما يسهل استخدامه وتوظيفه في الكلام عند الصغير والكبير , بلا مسؤولية أخلاقية أو اجتماعية , فهو يغري كل فرد متمسك بهويته الطائفية كي يدعم موقفه بآية قرآنية وبحديث نبوي من هنا , وبفكرة من هذا العالم الفلاني أو ذاك ,وبقصة من العصر الهجري الثاني أو الثالث , ثم يحصل عنده اليقين الذي يسور به هويته الطائفية, دون أن يرف له جفن حول المسافة الفاصلة بينه وبين مصادره المعرفية.هذا الخلط لا يسلم منه لا مثقفا يدعي العقلانية , ولا مثقفا إسلاميا يتمسك بالأصول.
لذلك من سخريات الدهر وهزله أن يتم عولمة جهلنا على الهواء مباشرة , ليبث إلى جميع شعوب العالم المتحضرة ثقافيا وأخلاقيا.
مثال (2)
التغني بأمجاد التاريخ هو إحدى السمات التي ترتبط بخلط الأزمنة في النظر للتاريخ. وعليه هناك انطباع عام يكاد يصبح واحدا من البديهيات التي ترسخت في أذهان الناس,في عموم البلاد . هذا الانطباع يخص مسألة التعايش السلمي بين المذاهب الذي حظيت به منطقة الأحساء على امتداد تاريخها الطويل.هذه حقيقة أثبتها التاريخ ,وهناك شواهد ومحطات تشير إلى هذا الأمر,ولا حاجة لنا هنا لتكرار ما هو مكرر على الألسنة وفي الخطابات المتعددة.لكني سأناقش هذه المسألة من منظور مختلف, ولأسباب لا تتعلق بدحض هذه المقولة المثبتة تاريخيا, ولا كذلك للتغني بأمجاد تاريخية لأجل إشباع رغبات نفسية واجتماعية , لا زالت ترى إلى نفسها بأنها سليلة تاريخ عريق ,لا ينبغي إهماله أو تركه لرياح النسيان.
أولا- ما مقياس التعايش الذي تم الأخذ به كي يقال بحقيقة ما نذهب إليه عن التعايش المذهبي في الأحساء؟ في واقع الأمر هناك ملاحظة أسجلها هنا بخصوص الموقف من مفهوم التعايش, هناك تصوران منه , الأول هو التصور الذي نجده مستخدما عند أغلب الذين تحدثوا من جهة عن تاريخ سير الرجال العلماء والأدباء, من باحثين ومؤرخين كالعرب القدامى مثل ياقوت الحموي, ومن جهة أخرى عند الرحالة في مشاهداتهم أثناء مرورهم بالمنطقة كما هو حال عند ناصر خسرو أو فيدل أو الرحالة الدمشقي مرتضى بن علوان الذي مر على الاحساء في أوائل القرن الثامن عشر أيام إمارة بني خالد,وهو أحد المصادر المهمة التي كثيرا ما يستشهد به عند الحديث عن مسألة التعايش بين المذاهب.ناهيك عن الباحثين المعاصرين سواء من أبناء الأحساء أنفسهم أو خارجها. هذا التصور في مفهوم التعايش يتسم عند أغلبهم بخاصيتين اثنتين : الأولى ترتبط بالفكرة الاجتماعية عن التعايش ,ومدى تشكل مظاهرها في العلاقات اليومية بين الناس.أما الثانية فهي ترتبط بفكرة مؤداها أن حياة الألفة والمحبة بين علمائها وأدبائها هي دليل على الألفة والمحبة بين عامة الناس في علاقاتهم الأسرية والاجتماعية. وكأن تجسيد المحبة والاحترام عند النخبة من العلماء هو سبب في حصول تجسيد الاحترام ذاته بين عامة الناس.السرود التاريخية لحياة هؤلاء من العلماء يوحي بهذه النتيجة في أغلب الأحيان.وليس هذا موقفا سلبيا على الإطلاق, كون النخبة من علمائها وأدبائها , في العصور الماضية ,كانوا يشكلون الضمير المعبر عن إرادتهم المعيشية في الحياة.لكنه يوضح إلى أي حد كان مفهوم التعايش في هذا التصور مختزلا في الجوانب الاجتماعية المقتصرة على حياة النخبة فقط.
ثاني التصورين هو ما لم ترتبط معانيه أو دلالاته عند أفق الباحث التاريخي بمسألة التعايش.يتضح هذا الأمر في غياب خطاب انثروبولوجي يغطي كافة جوانب الحياة الإنسانية , ويرصد تجاربهم في السلوك العقائدي والاجتماعي والأدبي والاقتصادي والسياسي والفكري, ثم يربط هذه الجوانب بتحليل الوثائق التاريخية التي تشكل في مجموعها الموروث المكتوب ,سواء كان منها الأدبية أو الفكرية أو الدينية.
ثانيا- نتائج هذا الغياب جعل من فكرة التعايش تبرر حضورها ضمن مفردات الثقافة الشعبية أكثر من حضورها ضمن دوائر الخطاب الفكري الواعي بتاريخه من العمق.
لذلك في ظني لا توجد أدوات لقياس التعايش سوى الملاحظة والمعايشة . وعليه أقول : ثمة تحولات طالت كل شيء في حياة الناس: المدينة انتقلت من طورها البسيط إلى المعقد,الكثافة السكانية والتخطيط العمراني,ساهما في تحوير فكرة التعايش, وجعلا منها فكرة تعيش في السلوك على بقايا إرث الماضي فقط, دون أن ترتقي إلى مستوى الخطاب الثقافي. وما زاد الطين بله اتساع الفجوة بين الطائفة السنية والشيعية في الأحساء , ليس فجوة السلوك , هذا غير مطروح على الإطلاق, بل فجوة الخطاب,وهو ما يمس فكرة الرؤية المشتركة للتعايش القائمة على فهم الواحد للآخر.هنا تحديدا غياب شبه تام لهذا الجانب.هذه الرؤية لا تصنع إلا بالحوار باعتباره قيمة تتأسس في نسق الحياة العامة للناس.
وهذا معناه بالدرجة الأولى استثمار روح الاحترام المتوفر في السلوك , وترجمته إلى حوار,لا سيما أن العادات والتقاليد والطقوس توفر الإمكانية الكبرى في استثمار كهذا.وذاكرة الرجل الاحسائي لازالت أيضا تحتفظ بطاقة جبارة بأدق تفاصيل ثقافته الشعبية التي تعبر عن فكرة التعايش بأجلى صورها.وهذا ما يساعد كثيرا في تبلور ثقافة الحوار بين الناس.وهذا ما يشجع أيضا في تحويل مثل هذا النموذج إلى درس تعليمي تربوي , تتبناه مؤسسات الدولة التعليمية بوصفه أحد النماذج المشجعة على التعايش التي نحتاجها جميعا في إحكام النسيج الاجتماعي ضمن أطر الدولة وحدودها. ولن تتم مثل هذه الخطوة إذا لم تنتظم قوى المجتمع , من رجال أعمال ومثقفين ورجال دين , وتنخرط في الحوار من خلال مؤسساتها الأهلية.
مثال (3)
إذا ما أخذنا بنية المجتمع الشيعي الأحسائي ومكوناته النفسية والاجتماعية والثقافية بعين الاعتبار. بحيث يمكن ربطها بحقيقة كون الهوية المذهبية عندهم ليست مجرد عقائد وطقوس توارثوها أبا عن جد فقط , بل هي فضلا عن ذلك , تمثل صمام أمان ونظام معيشي يحافظ على تماسك الجماعة من الداخل ويغذي ذاكرتهم الجماعية ويمدهم بتصورات عن قداسة ماضيهم وعن موقعهم في العالم, هذا النظام هو ما يعكس مجمل العادات الأخلاقية , والعلاقات الاجتماعية , والتبادلات التجارية , بحيث تكون قوة تماسكها , لا تقتصر على احتياج الفرد الشيعي لها في شؤون حياته المادية اليومية فقط , بل القيمة المقدسة (باعتبار هذه القيمة تتصل بشؤون الإنسان في علاقته بالله في آخرته ) التي تضيفها تلك العقائد والطقوس عليها من العمق, هي ما تعطي لهذا التماسك معنى وجودي , حيث ينزل هذا المعنى , منزلة الهوية الجامعة التي لا تدانيها لا في الأهمية ولا المرتبة أي هوية أخرى , قد تكون عندها قابلية الإزاحة أو الاستيطان.
أقول هذا الكلام لأدلل على أن الهوية المذهبية حين تصل إلى مرتبة وجود عند الفرد فإن تصور التاريخ عنده هو تصور شبه أسطوري مقدس, هو قصة لها بداية ونهاية ولها أبطالها الأسطوريين .
أما لو أخذنا حواضن شيعية أخرى كالكويت أو البحرين, وذلك في سياق المقارنة ذاتها , نرى هويتهم الشيعية , ليست الهوية الوحيدة الجامعة لكيانهم , أو المتحكمة في كل شؤون حياتهم , رغم ما لهذه الهوية من أهمية في تماسكهم الروحي والاجتماعي . فهناك الهويات المستقبلية التي تنفتح على الصيرورة وليست ذات معطى جاهز, وبعضها تتشكل على رافعتين : الدولة ومؤسساتها , والمجتمع بجميع طوائفه ومذاهبه , ضمن عقد اجتماعي يتصالح عليه الجميع . قد يبدو ما نشير إليه هنا , أو ما نعنيه بالدرجة الأولى هي الحياة السياسية التي تسيج حياتهم الاجتماعية , ومجمل قضاياهم المختلفة. وعليه عندما يمارس الفرد الكويتي أو البحريني حقه السياسي ( وأنا أتحدث هنا عن الحق السياسي كتجربة تاريخية وكثقافة ) بجانب حقه الديني(المذهبي) في حياته اليومية , يكون بذلك قد وسع من نظام تماسكه الداخلي , فبدلا من هوية واحدة كما هي حال الهوية الشيعية الأحسائية , نجده يحتمي بإرثه في الماضي بواسطة حقه في حرية المعتقد, ويذهب بحياته إلى المستقبل بواسطة حقه السياسي, ولا تعارض بينهما , بل ثمة انسجام وتناغم .
أخيرا من العوامل التي ساعدت على تضخم الهوية المذهبية وتصلبها في جوانب كثيرة منها هو افتقار الثقافة في المملكة إلى محفزات إبداعية متخيلة , تساعد الفرد على صنع هوايات خاصة ( رياضية , فنية , أدبية , بصرية .. ألخ ) تنمو وتتبلور على درجة من النضوج , حتى تتحول في المستقبل إلى هويات متنوعة , لا تكون بديلا عن الهوية المذهبية كنظام للتماسك الروحي والاجتماعي , بل تخفف من وطأتها وثقلها , بحيث تحفزها للانطلاق إلى المستقبل بخفة الطائر المحب للحياة .
ثانيا- تاريخ المؤرخين
هنا يأتي دور الحديث عن المؤرخ الذي يبني جسرا حقيقيا بين الماضي والمستقبل مرورا بالحاضر , رغم المخاطر والمنزلقات التي تحوط عمله , إلا أن الآمال معقودة عليه للخروج من هذه الشرنقة. هناك مؤرخون لم يعدم حضورهم في تاريخنا المعاصر , استطاعوا أن يقدموا رؤية مختلفة للتاريخ على اختلاف مشاربهم وأفكارهم ,ولا أريد أن أعدد الأسماء, فهم كثر. لكني سأكتفي بذكر اثنين الأول هو الباحث التونسي منصف الجزار في كتابه " المخيال العربي في الأحاديث المنسوبة إلى الرسول" دار الانتشار العربي – بيروت 2007 وهو عمل يعطي نموذجا للدراسات التي تنهض على إعادة قراءة الموروث ومدوناته وفق مناهج ترى في المخيال مكونا أساسيا للفهم ,فالغريب والعجيب اللذين يكثران في مرويات العرب حينما يتم الكشف عن دلالاتهما وتحليل الرموز الكامنة خلفهما , ومن ثم ربطهما بسياقهما التاريخي من ظروف محيطة ,كل ذلك من شأنه أن يحقق فهما أفضل لفضاء التاريخ الإسلامي , ويقربنا بشكل عقلاني لمجمل المرويات التي تشكل في مجملها السيرة المحمدية.هذا العمل يفتح أفقا في الدراسات التاريخية التي لا تكتفي بالقراءة الخطية أو القفز من عصر إلى عصر دون رابط بدلالة أو معنى, بل قراءة نشطة تستدعي تاريخ الأفكار , وتراعي شروط تطورها عبر العصور , وهي في كل ذلك تتوخى الحذر من التعميم أو التقرير.
العمل الآخر هو لجورج طرابيشي " من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث" دار الساقي 2010 وهو عمل يتأسس على مفهومي القطيعة والاستمرار وفق نظرة ابن خلدون ,فهو يحفر في النصوص المؤسسة تفكيكا؛كي يبحث في دهاليز الموروث عن إسلام القرآن الذي حجبه إسلام الفتوحات , وهو في أثناء ذلك يعيد قراءة المدونات في التفسير والحديث والفقه والفلسفة وفق السياق القرآني ودلالة تصوره عند كل عصر. هذان النموذجان , وهناك الكثير غيرهما , بالتأكيد سيفتحون أفقا مختلفا يزيحون من خلاله مجمل القضايا التي لا تمس حياتنا المعاصرة , واستبدالها بقضايا لها صلة بالتراث بالقدر نفسه التي تكون لها صلة بأزمات الحاضر وتطلعات المستقبل.فالفكر الغربي لا يستمد حلوله للمشاكل التي تعصف بحياة مواطنيه من ماضيه, سواء الفكري أو السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي, هو يستمدها من تقاليد عريقة ترسخت بفضل التراكم المعرفي الهائل الذي تحقق عبر قرون متتابعة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق