الأربعاء، 10 سبتمبر 2014

استكمال حقيقة الايمان

يصادف الحادي عشر من شهر ذي القعدة ذكرى مولد الإمام الرضا ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) ، وعملاً بوصية النبي الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؛ حيث ترك أو خلف ثقلين أمرنا بأن نتمسك بهما ؛ وهما القرآن والعترة ، في ما رواه المسلمون جميعاً .
ونتبرك بذكر حديثٍ شريفٍ عنه ( صلوات الله وسلامه عليه ) ؛ يبيِّن لنا فيه ماذا ينبغي لنا [ فعله ] ؛ إذا أردنا أن نستكمل حقيقة الإيمان ؟
وذلك أن الإيمان يزيد وينقص ، ومن أراد أن يزداد إيمانه ؛ ليستكمل ما يتطلبه الإيمان ، فإن عليه أن يراعي عدداً من الأمور ، يذكر الإمامُ ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) ثلاثةً منها .
يقول ( لا يستكمل عبدٌ حقيقةَ الإيمان حتى تكون فيه خصال : التفقه في الدين ، وحسن التقدير في المعيشة ، والصبر على الرزايا )(١).
ولماذا ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) يريد أن يتحدث عن سمات وخصال ؟
بمعنى أنها ليست عابرة ، وإنما أصبحت تمثل السمة الشخصية لهذا الإنسان ، الصفة الراسخة فيه ، بما يمكن أن نسميه في عرف العلماء بالملكات والأوصاف المستقرة فيه .
مدخل
لكن كمدخل أذكر ثلاث نقاط :
النقطة الأولى : هي أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وفيه قوى متعددة . ففيه جسده ، وفيه عقله ، وفيه روحه ونفسه . ولكلِّ واحدٍ من هذه القوى متطلباتها ولوازمها . البدن له شكل من أشكال الصحة ، وله أسباب للمرض ، وكذلك العقل ، وكذلك الروح . طبيعة الرعاية للجسد تختلف عن طبيعة الرعاية للعقل ، وتختلف عن طبيعة الرعاية بالروح والنفس .
طبعاً ، في مقام الموازنة بين الأهم والمهم روح الإنسان ونفسه هي الأهم ، والذي سمي في القرآن الكريم بـ( القلب ) في بعض التعبيرات . وذلك ، أن الله عز وجل يقول { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الشعراء / 88 - 89 ] . الناس ، حينما نقرأ ونتدبر في اهتماماتهم اليوم ، نجد أن هناك أشكالاً من الاختلال . هناك من يولي بدنه وجسده العناية الفائقة ، ولا يعنيه من قليل ولا من كثير أمر عقله ولا أمر روحه ؛ فيذهب إلى الصالات الرياضية ، وهو أمرٌ محمودٌ . 
لا نريد أن نقول إن الإسلام لا يريد منا أن نهتم بأجسادنا ! لا يجوز للإنسان أن يهمل جسده إلى درجة أن يعرضه للمرض والضرر الذي لا يُسمح به شرعاً ، لا يجوز ، يجب على الإنسان أن يأكل وأن يشرب ؛ بالمقدار الذي يحافظ فيه على بدنه صحيحاً معافى . نعم ، لو قام بتصرفٍ يمكن أن يضره إلى حد ما في جسده ، قد لا يُقال بأنه محرم ، لكنه بالتالي ، أو على أقل التقادير ليس مطلوباً شرعاً ، بل هو مذموم لكن قد لا يصل إلى درجة الحرمة . يجب أن يكون هناك توازن ، نعطي للجسد ، وللعقل حقه ، وللروح والقلب حقه . أما دون ذلك سيحصل هناك إخلال واختلال في التوازن .
النقطة الثانية هي : أن هذه القوى المتعددة ؛ كما أشرنا ، تختلف في متطلباتها . يعني شكل رعاية الجسد تختلف عن شكل رعاية الجسد ، نراعي الجسد بالأكل المناسب ، والشرب المناسب ، والرياضة المناسبة ، والحركات المناسبة . لكن هذا لا يخدم العقل ، العقل يحتاج إلى أن نروضه بالعمليات الذهنية ، والفكرية ، والعقلية ، والعلمية ، وأمثال ذلك . وكذلك الروح لها متطلباتها . يعني إذا أكلتَ جيداً لا يعني أن الروح ستكون جيدة ! حاجات الروح تختلف عن حاجات الجسد .
النقطة الثالثة هي : أن الإنسان ؛ في علاقته بمن حوله وما حوله ، يحتاج إلى هذه القوى الثلاث . هناك موجودات نحتك بها بأذهاننا وأجسادنا ، فلابد أن نقوِّم الجسد ؛ إذا أردنا أن يكون اتصالنا وتواصلنا مع هذا الشيء يتحقق بشكلٍ حسنٍ . وهناك أشياء لا ينفع فيها الجسدُ ، وإنما يتوقف ذلك على أن يكون الاتصال الروحي جيداً . فالقلوب أو أرواح الناس تتناكر وتتعارف ؛ كما أشير إلى ذلك في الأخبار الشريفة . هذا الميل الذي نجده منا تجاه بعض الأشخاص ، والعزوف تجاه أشخاص معينين ؛ لا ربط له بالجسد ، وإنما يرتبط بأرواح الناس ، هناك شبكة من العلاقات الله سبحانه وتعالى نظمها ليتحقق هذا الاتصال .
***
بعد هذه النقاط الثلاث ، نرجع إلى ما ذكره الإمام الرضا ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) ؛ لنقف عند هذه الخصال الثلاث ؛ وبإيجاز شديد .
الخصيلة الأولى : التفقه في الدين
التفقه في الدين مر بأطوار متعددة ؛ حتى على مستوى استعمال المصطلح . نحن حينما نقول الآن فلان متفقه ، يغلب على استعمال الناس أنهم يريدون به أنه يعرف الحلال والحرام . فلان متفقه يعني يعرف الحلال والحرام ، مع أن معارف الدين ، وتعاليم الدين ، لا تقف عند الحلال والحرام على مستوى الإقدام والإحجام فقط ، بل هذا يشكل ثمرة لسلسلة من المعارف ، سلسلة من المشاعر أيضاً . ولذلك ، تتنوع المعارف الدينية على ثلاث مسارات :
المسار الأول : العقائد ، والمعارف . وهو تشكيلُ وعيك ؛ حول نفسك ، وحول من حوله وما حولك ؛ من الله سبحانه وتعالى ؛ وهو الخالق ، إلى سائر المخلوقات . وهذا ما يعرف في علم العقائد الحديثة بـ( الرؤية الكونية ) . يعني تؤمن بوجود الله عز وجل أو لا تؤمن ، صفات الله عز وجل ، أفعال الله ، أحكام الله ، علاقة الله عز وجل بالخلق ، علاقة المخلوقين بالخالق سبحانه وتعالى . هذا بحث عقائدي ، بحث معارفي ، يمكن للإنسان أن يتقن الحلال والحرام ، لكن ليس بالضرورة يكون متقناً هذا الباب .
المطلوب ؛كما يشير الإمام الرضا ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) ، في الدين بشكلٍ شاملٍ ؛ لأن كثيراً من الأخطاء التي وقع فيها السابقون ، ووقع فيها من ابتلي بالأخطاء والخطايا هذه الأيام ؛ كهؤلاء الشواذ الإرهابيين ، الحقيقة ناتج من أنهم قد يكون عندهم تفقه في الدين ، لكن عندهم خلل كبير في جوانب أخرى .
الله سبحانه وتعالى حينما يؤدبنا ؛ ويقول { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [ المائدة / 8 ] . يريد أن يقطع الطريق علينا أن نكون ظلمة ؛ على مستوى ألا نعطي لذي الحق حقه ؛ بدءاً من حق الحياة ، وانتهاءً بآخرِ حقٍّ ؛ وإن كان حقاًّ صغيراً .
لا يجوز للإنسان أن يعتدي . لا الحاكم يجوز له أن يعتدي على المحكوم ، ولا المحكوم يجوز له أن يعتدي على الحاكم . لهذا حق ، ولهذا حق . لكن أن يُطالَب الحاكمُ بالحق دون أن يلتزم المحكوم ، أو يطالَب المحكوم بالحق دون أن يلتزم الحاكم ، هذا خللٌ .
وأيضاً في ما يرتبط بالحكام في ما بينهم ، وفي ما يرتبط بالمحكومين في ما بينهم ، يجب أن يكون هناك عدالةٌ ، يجب أن يكون هناك إنصافٌ .
من أين ينشأ الإخلال في العدالة والإنصاف ؟
قسمٌ كبيرٌ منه يرتبط بقلة وضعف التفقه في الدين . ضعف التفقه في الدين هو الذي يدفع بأمثال هؤلاء الشواذ فكرياًّ أن يقول : إن بنادقنا يجب أن تُوجه إلى الداخل قبل أن تُوجه إلى الخارج !!
هذا هو الجندي الصهيوني إلى جانبه ليس بينهم وبينه إلا أمتار ، لا يطلقون عليه الرصاص !! وإنما يطلقون على جندي مسلم ؛ اختلفوا بينهم وبينه في شيءٍ قليلٍ أو كثيرٍ !
هذا خلل ، هذا بالتأكيد خلل كبير . فلسطين يحتلها الصهاينة ، ثم ينشئون تنظيمات لإحقاق حقوق أهل الهند !! مع أن المسلمين في الهند أوضاعهم أفضلُ بكثيرٍ من أوضاع المسلمين في ديار المسلمين . 
لكن تشعر بأن هناك ضعف في التفقه من جهة ، وهناك تلاعبٌ بهم من جهة أخرى ، ينشأ من ضعف هذا التفقه في الدين . وهكذا .
فالإمام الرضا ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) يطلب منا أن نتفقه في الدين ؛ بالمعنى الشامل .
كيف نتعامل مع التعلم المدرسي ؟ 
الآن ابتدأت المدارس ، هل ذهاب أبنائنا وبناتنا إلى المدارس هو أمر ترفي وكمالي ؟ أم أنه أمر ضروري ؟
لا ، لا ، لا يمكن لأحد أن يقول أن الذهاب إلى المدرسة - اليوم - والتعلم هو أمرٌ كماليٌّ ، بل هو من أوجب الواجبات على الأمة . لابد للإنسان أن يتعلم ، لكن يجب أن ننتبه إلى أن المدارس ؛ مهما كانت راقية ، وهناك ملاحظات تُسجل على المناهج ، وعلى أداء المدرسين ، لكن فلنؤمن هذا الجانب هنا ، ثم نقوم بعملية تتميم للنواقص .
الهوة الحضارية بيننا - نحن المسلمين - وبين غيرنا يجب أن نبحث عن أسبابها في ضعف التعليم ، كيف هي مدارسهم ؟ وكيف هي مدارسنا ؟ ماذا يعطونهم في المناهج ؟ وماذا نعطي نحن أبنائنا في المناهج ؟
يجب أن يكون هناك فلسفة تربوية وتعليمية تتناسب مع ما جاء في الكتاب الكريم { إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء / 9 ] .
لا يجوز للأمة أن تكون أمة ذيلية ؛ تتبع الآخرين ؛ سياسياً ، واقتصادياًّ ، وثقافياًّ ، واجتماعياًّ ؛ ليغلب عليهم حالة الانبهار !
كيف ننتزع هذه الروح ؟
في فصول المدرسة ، في المدارس ، في البيوت ، في المساجد . هذا المعنى هو الذي يحقق لنا التفقه في الدين . حينذاك نستكمل حقيقة الإيمان . هذي هي الخصلة الأولى .
الخصلة الثانية ؛ التي يشير إليها الإمام ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) : حسن التقدير في المعيشة .
لا يكفي الإنسانَ أن يكون متفقهاً في دينه ، هذا إذا تحقق منه . بل لابد أن يضم إلى ذلك حسن التقدير في المعيشة ؛ لأن التفقه في الدين ما هو ؟
التفقه في الدين هو سلسلة من المعارف تنبسط على المسارات الثلاثة ؛ التي ذكرناها ، رؤيته العقائدية سليمة ، معرفته للحلال والحرام والأمر المطلوب والأمر غير سليمة ، يعرف الجوانب الأخلاقية أيضاً بشكل جيد ، لكن هل يكفي ؟ أم لابد أن يترجِم ذلك عملياًّ ! وهذا ما يشير إليه الإمام ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) . لكن بتسليط الضوء على جانبٍ معينٍ ؛ وهي جانب المعاش .
كيف ننظم حياتنا ؟
الناسُ ؛ إلا من عصم الله عز وجل ، تجد أن أحوالهم في ما يرتبط بالمعيشة بين الإسراف من جهة ، وبين التقتير من جهة ! ليس هناك حالة وسطية مبنية على أساس التفقه في الدين . في حسن تقدير المعيشة نحن نحتاج إلى أن ننظم علاقاتنا بأطراف ثلاثة :
1 - الزمان
2 - المكان 
3 - الإنسان 
يعني في علاقتك بالناس يجب أن تحسن التقدير في المعيشة ، تبيع ، وتشتري ، وتتعامل مع من . ليست كل الفرص سانحة بالنسبة لك . هذا يرتبط بمقدار ما تملك ، وبمقدار ما يملك الطرف الآخر ، بمقدار ما يحمل من الرؤية في الإقدام على التعامل معك ، وفيما تحمل أنت من الرؤية في الإقدام على ما تريد أن تقدم عليه معه . هذا يرتبط بقراءتك النفسية والفكرية والعلمية لهذا الشخص ، ولهذه الجهة ، ولهذا المجتمع ، ولتلك الدولة ، وهكذا .
ولذلك ، كيف أن عالم السياسة - اليوم - يرتبط بعالم الاقتصاد بشكلٍ كبيرٍ جداًّ . الدول - في أغلبها - ليست حرةً في البيع والشراء ! هناك جهات متنفذة اقتصادياًّ تتحكم في أغلب دول العالم . وحتى هذه الحركات التي تجدونها ، تجد أن الفتن تحصل في مناطق معينة ، لكن بعد عشرة كيلومتر لا تجد أثراً لهذه الفتنة في هذه البقعة ! ما الذي يمنعهم ؟
هناك قوة تتحكم - للأسف الشديد - في بعض مَن يظنون أنهم ينشدون شيئاً لأنفسهم ، لكن هناك من يحرهم ويتحكم فيهم ، لكم أن تثوروا وتتحركوا فقط إلى هذه النقطة ! لكن أن تتجاوزوا هذه النقطة ليس مسموحاً لكم ! مثل ما أن العدالة أيضاً يطالب بها لأفراد معينين ، وتهمل لأفراد معينين . 
قتل في جريمة مروعة شنيعة مشوِّهة للإسلام والمسلمين اثنان من الأمريكان ؛ في الأسبوع الماضي ؛ من قبل هؤلاء الشاذين فكرياًّ ! ثارت ثائرة العالم الحديث ! وهذا أمرٌ حسنٌ . كنا نتمنى أن تثور ثائرتهم مع أول جريمة ارتكبها هؤلاء ! وليس بعد عشرات الآلاف من الجرائم ، فقط لأن اثنين منكم قتلا ظلماً ، فكيف بعشرات الآلاف من الناس قُتلوا ظلماً ، ولم تتحركوا ؟!
يعني أن هناك اختلالاً في موازين العدالة .
وبالتالي ، يحتاج المسلم والمؤمن إلى أن يتفقه في الدين ، ويحسن تقدير في المعيشة . يعني أن هذا الذي صنع هذا العدو ، أو سهل له ، أن يخترقك ، ليس من حسن التقدير في المعيشة أن تأتي لمن أطلق عليك هذا الوحش أن تقول له خلصني من هذا الوحش ، لأنه حتى إذا خلصك من هذا الوحش سيطلق عليك وحشاً خر ؛ لتبقى دائرة الفتنة مستمرة وحاضرة في أوساط هذه الأمة . جنب الله عز وجل المسلمين [ إياها ] جميعاً .
فإذن ، نحتاج إلى أن ننظم علاقاتنا بالإنسان والمكان ؛ الذي هو الأرض . يعني ليس من المعقول أن تكون حسنَ التقدير في المعيشة وأنت تفكر بعقليةٍ شتويةٍ في أيام الصيف ! الشتاء له فاكهته ، له ثماره ، له ما يحتاجه الإنسان . والصيف له ثماره ، وما يحتاجه الإنسان فيه ، فلا بد أن يكون الإنسان ؛ إذا أراد أن يكون حسن التقدير في المعيشة ، أن يلم بالظرف الذي هو فيه ، بالإمكانات التي يملكها ، والإمكانات التي لا يملكها .
فإذن ، هناك مجتمعات يصلح أن تخطط بنفسها زراعياًّ ؛ لأنه مجتمع زراعي ، وهناك مجتمع تجاري ، وهناك مجتمع صياد في البحر . ليس من المعقول أن نشغل هؤلاء الذين يعيشون على أطراف البحر ؛ في منطقة ليست زراعية ، ونشغلهم بشكل مضاعف كي نجعل من هذا البلد بلداً زراعياًّ ! هم أصحاب بحر ينبغي أن يتوجه فكرهم وهمهم إلى ما يكونون قادرين عليه ، وهكذا في المناطق الزراعية ، وهكذا في كل حال .
كذلك أيضاً علاقتك بالإنسان ، سواء عيالك ؛ الذين كلَّفك اللهُ عز وجل أن تنفق عليهم في الدائرة القريبة جداًّ ؛ أبواك ، أولادك ، زوجتك ، نظام حسن المعيشة يفرض عليك أن تقرأ . كيف تبني بيتك ؟ كيف تشتري بيتك . هذا إذا أراد أن تشتريها إذا كان عندك خمسة من الأولاد ، وكان لهم سن معين ، طبيعة الأرض التي ستشتريها تختلف عما لو كان لك ولدٌ وحيدٌ . كنت في أوان شبابك لعل الله عز وجل يرزقك مع هذا الواحد عشرة . لكن إذا كان الإنسانُ كبيراً في السن ، وليس لديه رغبة في أن يتزوج من جديد ، وعنده خمسة ، يستطيع أن يقول : أريد أن أبني بيتي في حدود هذه الأولاد الخمسة ، مع ما يمكن أن يتوالد من هؤلاء الأولاد من الأولاد ، وهكذا .
فإذن ، يختلف ، تستطيع أن تشتري أرضاً ، أو لا تستطيع . كل هذا يفرض نفسه عليك في حسن تقدير المعيشة . هذا أمر لم يهمله الإسلام ، حتى يظن أحدٌ أننا نحتاج إلى أن نرجع ، أو كأن من وصل في علم التخطيط الحديث والإدارة الحديثة ، هم من اكتشفوا كل هذا ! لا ، هذا موجود في النصوص الشرعية ، وكيف نجح يوسف ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) ؛ والذي ساق الله عز وجل قصته ، كيف نجح يوسف ؟ هل نجح بدون تخطيط اقتصادي سليم ؟! هذا موجود في القرآن الكريم . لكن من تفقه في الدين نجح ، أما ما من لم يتفقه سيقع في الكثير من الإرباك . هذه خصلة .
ليس للمؤمن أن يتكامل إيمانه إلا أن يحسن التقدير في معيشته 
الخصلة الثالثة : الصبر على الرزايا
الله سبحانه وتعالى بنى هذا العالم ، وبنى هذا الكون على أساس الفتنة والامتحان والابتلاء { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت / 2 ] .
الفتنة والابتلاء ليس لأن الله لا يحبك ، بل لأن الله عز وجل يريد أن يختبرك ؛ حتى تكتشف - أنت - نفسَك ، وإلا فإن الله عز وجل لا تخفى عليه خافية ، لكن حتى لا يظن الشخصُ أن ادعاءه العريض هذا ادعاءٌ سليمٌ في كل المراحل ! لابد أن يدخل في الامتحان حتى يكتشف كم كان شعاره الذي يرفعه بينه وبين نفسه صحيحاً ، وكذلك ليكتشفه الآخرون ؛ حتى يعرف الناسُ مَن بكى ممن تباكى .
فإذن ، { لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } [ الكهف / 7 ] الله سبحانه وتعالى يقول { لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } [ المائدة / 48 ] . أراد منا أن نفعل الخير ، بل أن نتسابق في الخيرات .
كيف نعرف أن هذا فاز ، وأن هذا سبق ؟
من خلال الابتلاء ، ومن خلال الامتحان .
صنوف الابتلاءات والامتحانات التي يتعرض لها الإنسان كثيرةٌ جداًّ . المرض ابتلاء ، قلة المال ؛ قلة ذات اليد ابتلاء ، الإخلال بالأمن ابتلاء ، ضعف الإمكانات في هذا الاتجاه أو ذاك الاتجاه كلها أشكال من الابتلاء .
ما الذي عليَّ وعليك ؟
أن نبذل جهدنا في رفع هذه النواقص . لكن لو أننا عرفنا أن الله سبحانه وتعالى ابتلانا وامتحننا ؛ كأن يولد الإنسان كفيفاً في بصره ؛ هذا امتحان . لكن هل هذا يعني أن يستسلم لهذا الامتحان ؛ فيقول : أنا أغلق عليَّ بابُ العلم والمعرفة . لا . الله سبحانه وتعالى وإن حرم هذا الإنسانَ من البصر ، لكن فتح له السمع ، فتح له القدرة على التفكير ، وكم هم الناجحون وهم أكفَّاء في أبصارهم ، لكن صاروا أكفَاء في قدراتهم ، وكم هم المبصرون من الناس لكن لا كفاءة لديهم في شيء من شؤون الدنيا .
فالإمام ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) يوجهنا أولا إلى أن نكون مؤمنين ؛ إذا أردنا أن نكون عباداً صالحين ؛ حيث وعد الله عز وجل الناس ؛ أي فئة من الناس أن يرثوا الأرض ؟
{ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } [ الأنبياء / 105 ] ، هؤلاء العباد لكي يكونوا صالحين لابد أن يكونوا مؤمنين قد استكملوا خصال الإيمان ، ومن هذه الخصال هذه الخصال الثلاث ، جعلنا الله وإياكم ممن يتحلى بها ، ودفع له عنا وعنكم وعن جميع المؤمنين والمسلمين شر الأشرار ، وكيد الفجار .
اللهم صل على محمد وآل محمد .
اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن ؛ صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة ، وفي كل ساعة ، ولياًّ وحافظاً ، وقائداً ، وناصراً ، ودليلاً ، وعيناً ؛ حتى تسكنه أرضك طوعاً ، وتمتعه فيها طويلاً .
اللهم انصر الإسلام والمسلمين ، واخذل الكفار والمنافقين .
اللهم اشف مرضانا ، وارحم موتانا ، وأصلح ما فسد من أمر ديننا ودنيانا ، ولا تخرجنا من الدنيا حتى ترضى عنا .
وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين





هامش: 
(١) بحار الأنوار ، ج 75 ، ص 339 ، الباب السادس والعشرون - مواعظ الرضا عليه السلام ، الحديث 38 . ومسند الإمام الرضا ، ج 1 ، ص 285 ، باب النواد برقم 113 نقلاً عن تحف العقول .

ليست هناك تعليقات: