أ - في زمن كثُرت فيه أشكالُ القطيعة بين الناس ، والتي تجلَّت في صنوفٍ من العنف ؛ العنف اللفظي ، وتجاوز إلى العنف الجسدي ؛ كما نجده في أكثر من بقعة ، وفي أكثر من شريحة ، وفي أكثر من منطقة ، نحتاج إلى أن نتعرَّف على ما ينبغي أن نجعله منطلقاً ننطلق منه في تواصلنا بين الناس . وهو ما يمكن أن نسميه بـ( التواصل الاجتماعي الحسن ) .
ب - مستلهِمين مما جاء من الأخبار والأحاديث عن الإمام الصادق ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) ؛ بمناسبة ذكرى شهادته ؛ التي تصادف هذا اليوم ؛ الخامس والعشرين من شهر شوال .
***
توطئة
وأبدأ بقول الله عز وجل ؛ كما في سورة القصص ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [ القصص / 77 ] .
الآيات القرآنية والوحيُ كلُّه ؛ الذي بعث اللهُ عز وجل الأنبياءَ به ، جاء من أجل أن يحقق عنوان ( الإحسان بين الناس ) ، ويقتلع ويجتث عنوان ( الفساد ) وكل أشكاله وكل تجلياته بين الناس .
والإحسان والإفساد يمكن أين يتجليا في سلوك الفرد ؛ بينه وبين ربه ، وبينه وبين الناس . ويمكن أنه يتجلى في علاقات الناس بعضهم ببعض ؛ في الجانب الاقتصادي ، والاجتماعي ، والثقافي ، والسياسي . كل مناحي الحياة يمكن أن يكون الناس فيها محسنين ، كما يمكن أن يكونوا فاسدين ومفسدين ؛ أبعدنا اللهُ وإياكم عن هذه الأجواء غير الحميدة .
منطلقات البحث
لكن - كمنطلقات - أذكر ثلاث منطلقات ؛ وردت في كلام الإمام الصادق ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) . ولسنا في مقام الاستيفاء والاستقصاء .
1 - التواصل الاجتماعي سداًّ للحاجة
المنطلق الأول ؛ لمسألة التواصل الاجتماعي الحسن ، أننا نحتاج إلى التواصل الاجتماعي الإيجابي والحسن سداًّ لحاجاتنا . فالإنسان خلقه الله عز وجل ضعيفاً وفقيراً . ولذلك ، لا يستغني الناسُ عن بعضهم بعضاً ، بدءاً من خروجه من بطن أمه ، بل قبل أن يخرج من بطن أمه ، فلقد كان يحتاج إلى أبوين ، يحتاج إلى ذكر وأنثى ؛ حتى تنعقد هذه النطفةُ ، ثم تحمله هذه الأمُّ - مشكورةً - ، ثم يتولى توليده الأطباءُ وأهلُ الاختصاص ، ثم تتولى الأمُّ - مرةً ثانيةً - تربيته وتنشئته ، يتولى الأبُ الإنفاقَ عليه ، يتولى المعلمون والبيئةُ الاجتماعية التي ينشأ فيها ؛ يتعلم منهم اللغة والمأكل والمشرب وصنوف التعلم .
ولو أن إنساناً عاش خارج نطاق البيئة الاجتماعية لخرج إنساناً متوحشاً . صحيحٌ أنه يحمل سمات الإنسان في جسده ، لكنه على مستوى التفكير ، وعلى مستوى الأحاسيس ، وعلى مستوى السلوك ، لن يكون إنساناً أبداً ، الإنسان الذي نعرفه من الناس .
الإمام الصادق ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) يشير إلى أن التواصل الاجتماعي الجيد يصب في رفع كثيرٍ من احتياجاتنا التي لا نستغني عنها على المستويين :
· احتياجاتنا الدنيوية
· واحتياجاتنا الأخروية .
يعني أنك في دينك وفي دنياك تحتاج إلى الأصحاب والأصدقاء . وهذا لا يتم إلا عبر وسيلة التواصل بين الناس . أما إذا انتشرت بينهم القطيعةُ الاجتماعيةُ ، وما يتسبب فيها من فساد ، فسنفتقد الناسَ وسيفتقدوننا ، وبالتالي سنُحرَم من العطايا والاحتياجات التي يؤمنونها لنا ، وأيضاً هم سيفتقدون ذلك ، فسنكون وإياهم في حالة من الفقر ، في حالة من التخلف ، وستتكرس هذه الحاجات فينا .
يقول ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) : أكثروا من الأصدقاء في الدنيا ؛ فإنهم ينفعون في الدنيا والآخرة . أما في الدنيا فحوائج يقومون بها ، وأما في الآخرة فإن أهل جهنم قالوا ﴿ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ﴾ [ الشعراء / 100، 101 ] )([1]).
الإمام ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) حينما يحثنا في هذا النص ، والنصوص الأخرى ، على الإكثار من الأصدقاء ، والمقصود بالصديق هو الإنسان الذي تصاحبه ويصاحبك على قاعدة المحبة المتبادلة بينكما ، فيكون صادقاً لك ، وتكون صادقاً له ، يكون كلٌّ من الطرفين محباًّ وناصحاً الآخر .
ومن هنا سمي الصديق صديقاً ، مشتق من الصداقة ، يعني المصداقية ، في القول ، وفي الفعل ، وفي المحبة ، وإلا فلن يحمل هذا العنوان . كما ينبغي الإكثار من هؤلاء الناس يصبون في مصلحتك لرفع احتياجاتك الدينية والدنيوية .
أنت تحتاج إلى من يدعو لك ؛ فإن ( الدعاء مخ العبادة )([2])؛ فإن الله سبحانه وتعالى حينما يعلق كثيراً من عطاياه لنا بالدعاء لأهميته ﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ﴾ [ الفرقان/ 77 ] ، أو يقول في نص آخر ﴿ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [ غافر / 60 ] .
قد تتولى أنت الدعاء لنفسك ، وقد يتولاه غيرك ؛ ممن تحبه ويحبك ، ممن ترجو له الخير ، ويرجو لك الخير . ألم يقل أبناء يعقوب لأبيهم يعقوب ( عليه السلام ) ﴿ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ﴾ [ يوسف/ 97] ، تحتاج إلى من يستغفر لك .
فإذا - نعوذ بالله - افتقدنا التواصلَ الاجتماعي حتى في مظان الإجابة ، الإنسان ينتقي من يحبهم أكثر فأكثر ، يستحضرهم في ذاك الموضع فيدعو لهم . فإذا كثر أصدقاؤك كثر الداعون لك .
وسيكثر مَن تدعو لهم أيضاً . هذا في ناحية الآخرة .
أما في الدنيا ، فما يستغني أحد منا عن أن يكون له صديق في هذا الموقع الإداري ، صديق في ذاك الموقع الإداري ، ليس بالضرورة ليكون على خلاف القانون ، بل واسطة في أداء القانون نفسه . فرق كبير بين أن تراجع مديرَ مدرسة يعرفك أو لا تعرفه ، الذي لا يعرفك قد تحتاج معه إلى مراجعتين أو ثلاث أو أربع ؛ حتى يطمئن بأنك صادق في ما تقوله . لكن لو كان يعرفك وتعرفه لاستطاع أن ينجز لك ما تريد منه في اللقاء الأول ، وهكذا في بقية المواد .
طبعاً ، هذا ليس فقط على مستوى الأفراد ، حتى على مستوى الدول ، أو لسنا نعيش اليوم وضعاً قلقاً على مستوى العالم . والسبب : هو أن انعدام الثقة بين هذه الدولة وتلك الدولة تجعل الريبةَ مستحكمةً بين الفريقين ، وينعكس هذا الارتيابُ على علاقات الطرفين ، وسيشتري المواد التي تحتاجها هذه الدولة من بلدٍ بعيدٍ ، مع أن هذه المواد يمكن أن تؤمنها له دولةٌ مجاورةٌ . لكن بسبب سوء التواصل الاجتماعي بينهما ، وتحقق القطيعة بين الطرفين ، يجعله يشتري ما يدفع فيه ريالاً بريالات كثيرة . وعلى هذه فقس ما سواها .
2 - التواصل الاجتماعي الحسن من معالم الإيمان
المنطلق الثاني أن التواصل الاجتماعي الحسن من معالم الإيمان .
يقول ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) ؛ كما يرويه أبو الربيع الشامي ، قال : دخلت على أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، والبيت غاص بأهله [ يعني البيت الذي كان فيه الإمام فيه ناس كثيرون من المراجعين ] ، فقال [ يخاطب شيعة له ] فقال : يا شيعة آل محمد ! اعلموا أنه ليس منا من لم يملك نفسه عند غضبه ، ومن لم يحسن صحبة جاره ، أو صحبة من صحبة ، ومخالقة من يخالقه ، ومرافقة من رافقه ، ومجاورة من جاوره ، وممالحة من مالحه )([3]).
أنت بالتالي تحتكُّ بالناس ، سواء في لقاءاتك الدائمة أو حتى في لقاءاتك العابرة ، الإمام ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) ينبه إلى أن من حسن إيمان المؤمن ( ليس منا ) يقول ( يا شيعة آل محمد ليس منا ) ، يعني نفي كمال الإيمان من هذا الإنسان الغليظ الجاف ، والله عز وجل في الكتاب الكريم يشيد بشخصية النبي ( ص ) ؛ حيث يقول ﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [ آل عمران / 159 ] . هؤلاء الذين لا يحسنون أن يعبروا عن مذهبهم ، ولا عن دينهم ، ولا عن أفكارهم ، إلا بالغليظ من القول ، بالجلافة في الأخلاق ، هؤلاء يسيئون إلى الدين ، وإلى أنفسهم ، وإلى مذهبهم . ليس هذا من أخلاق محمد ( صلى الله عليه وآله ) ولا من أخلاق آله ( ع ) ، جعلنا الله وإياكم من مواليهم الصادقين والمحسنين .
3 - التواصل الاجتماعي عقلانية
المبدأ الثالث هو : أن الإنسان إذا حرص على ( حسن التواصل الاجتماعي ) سيكون من أهل العقلانية الراشدة .
فقد روي عنه ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) أنه قال : مجاملة الناس ثلث العقل )([4]).
تريد أن تكون عاقلاً حصيفاً عليك أن تجامل الناس . ومجاملة الناس لها تطبيقاتٌ كثيرةٌ .
من مجاملة الناس أن نتعامل مع كل إنسان بما يليق به ؛ في المستوى النفسي والفكري . يعني إذا لم يكن من أهل العلم المتفوقين لا نخاطبه بلغة أهل العلم المتفوقين ؛ لأننا لا نريد أن نستعرض عضلاتنا العلمية ، وإنما نريد أن نفيده ، لننتقل به من حالة من الجهل إلى حالة من العلم ، وبالتالي لابد أن نترفق به .
كما أن الإنسان الذي قد تتواصل معه ؛ في لقاء دائم ، أو في لقاء عابر ، قد يندُّ منه بعض السلوك السيئ ! ولو أردنا أن نأخذ حقنا من كل مَن يسيء إلينا لاحتجنا إلى أن نتشاجر مع الأولين والآخرين ، في أول النهار لك شجار مع أحد ، في آخر النهار لك شجار مع أحد ، وفي وسط النهار لك شجارات متعددة ! العاقل يحرص على أن لا يضيع وقته مع هؤلاء السفهاء . والله عز وجل يقول ﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [ الفرقان/ 63 ] ، يعني ما لم تجد نفسك مضطراًّ إلى أن ترد على السفيهِ سفاهتَه فانظر بربع عينك ، والمؤمن من أخلاقه أنه يتغافل .
حتى نحسن أن نتواصل اجتماعياًّ مع هذا ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [ فصلت / 34 ] . هناك فئات من الناس ، جماعات وأفراداً ، لو أحسنت إليهم كسبتهم .
نعم ، لو ثبت بالتجربة أو المعرفة أن فلاناً من الناس ، أو الجماعة الفلانية من الناس ، من السفهاء الذين استحكم فيهم السفه ؛ بحيث لا يجدي فيهم إحسانٌ ، ليس بالضرورة أن تسيء إليهم ، لكن جنِّب نفسك أن تتواصل معه ؛ حتى لا يسري إليك سوءُ أخلاقهم .
***
بعد هذه المنطلقات أذكر قاعدتين ؛ وردتا في كلمات الامام الصادق ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) ، جعلنا الله وإياكم ممن يتأسى به .
1 – القاعدة الأولى : العدل والمحبة والإنصاف
القاعدة الأولى : أننا حينما نحرص على التواصل الاجتماعي لا يجب أن يكون التواصل بأي ثمن ، بل لابد أن يكون على قواعد واضحة لا تتنافى مع ما أراده الله عز وجل من الناس أن يكونوا عليه . والقاعدة الأساسية في هذا الباب : العدل ، والمحبة ، والإنصاف .
حتى في تواصلنا الاجتماعي يعني ألا نكون وصوليين ، لا أن نكون انتهازيين في علاقاتنا ؛ أفراداً وجماعات ودول ، بل ينبغي أن تكون المحبةُ هي الحاكمةَ هنا .
أولاً : العلاقة مع المسلم المخالف
يروي معاوية بن وهب ؛ وهو أحد أصحاب الإمام ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) أنه قال :
قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : كيف ينبغي لنا أن نصنع في ما بيننا وبين قومنا ، وفي ما بيننا وبين خلطائنا من الناس ؟ قال : تؤدون الأمانة إليهم ، وتقيمون الشهادة لهم وعليهم ، وتعودون مرضاهم ، وتشهدون جنائزهم )([5]).
هذا النص روي بصيغ مختلفة عن الأئمة ( عليهم أفضل الصلاة والسلام ) يرتبط بتنظيم علاقتنا بمن يخالفنا في المذهب ؛ لأن الدوائر التي يلتقي فيها الناسُ ؛ الدوائر الفكرية ، تتفاوت .
· هناك دائرة إنسانية يدخل فيها كلُّ الناس ؛ الكفار والمسلمون على حد سواء .
· لكن هناك دائرة أضيق ؛ هي دائرة المسلمين .
· وهناك دائرة أكثر ضيقا هي دائرة المؤمنين .
· ثم هناك دائرة أكثر ضيقاً ؛ دائرة عشيرتك وأسرتك .
· وهناك دائرة أكثر ضيقاً ؛ هي دائرة علاقتك ببيتك ؛ زوج بزوجته وأبناءه .
ليس الحكمُ واحداً ، والطريقةُ واحدةً ، في تنظيم علاقاتك وتواصلك مع كل هؤلاء . لكلٍّ حكمٌ . لكن الذي يجمع كلَّ هؤلاء أنك - كمسلم وكمؤمن - لا يجوز لك أن تكون ظالماً .
مع كل هؤلاء يقول الله عز وجل { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [المائدة: 8] . يعني : الإرهابيون الذين نحمد الله عز وجل على أن الأمة بل البشرية والمجتمع الدولي كله تقدم خطوة إلى ما كان الصالحون والمسلمون بُحَّت أصواتهم منذ سنوات ، أيها الناس ! أيها العالم ! هناك إرهاب يأخذ بمجامع العالم ، لكن ما دام هناك الإرهاب يصب في مصلحتهم تجاه من يخاصمونه كانت الآذان صماء ، لكن لما وصل النحر إليهم ، والذبحُ إليهم تبيَّن لهم أن هؤلاء كانوا ظلمةً ؛ وهي خطوة جيدة ، خطوة حميدة ، ويجب الترحيب بها .
نعم ، هم أعداء للإسلام . نعم ، هم أعداء للبشرية . لكن كان ينبغي أن يقال هذا الكلام مع أول رقبة قُطِعت بغير حق ، مع أول قطرة دم سُفِكت بغير حق ، أما أن يتأخر ، بعد أن يتجذر هذا ، فالتبعاتُ ستكون كبيرة ، وقد تطول المسألة حتى تُحل المسألة بشكل جيد .
الذين يحسنون التواصل الاجتماعي ؛ بوصية الإمام ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) ، ومن يعمل بها يفترض أن لا يفرق بين قريب ولا بعيد ، بين من يؤالفك ولا بين من يخالفك ، الظلم ظلم يحرم ارتكابه في حق من تحب وفي حق من لا تحب . لا يجوز للإنسان أن يعتدي ؛ ولو بشطر كلمة على شخص ، ويبحث بعد ذلك عن المبررات ؛ في كيف نظلم هذا الإنسان أو لا نظلمه .
هذا في ما يتعلق بتنظيم العلاقة على أساس العدل والمحبة بيننا وبين المسلمين الذين نختلف معهم ، والسائل يسأل عن علاقة الشيعي بغير الشيعي ، الامام ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) قال : لا فرق . يعني الذين لا يتفقون معنا في المذهب ، انظروا ماذا يفعل أئمتكم ؛ كما جاء في نص آخر ، وافعلوا مثل ما يفعلون ؛ العدل والإحسان . هذا ما ينبغي أن نكون عليه .
ثانياً : العلاقة مع غير المسلم
ثم إن هناك نصوصاً عن الإمام ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) يؤكد فيها على أن هذا القانون ليس فقط في علاقتك بالمسلم . بل حتى مع غير المسلم ينبغي أن نكون حسني النية في التواصل الاجتماعي .
اليوم انقلبت الآية ، قد تجد مسلماً يبتسم ابتسامةً ينفتح فمه فيها إلى حد أذنيه مع الهندوسي ، مع اليهودي ، مع النصراني !! لكن إذا قابل مسلماً يخالفه في المذهب كشَّر بوجهه ، وعبس بوجهه ؛ كما لو لم يكن بينهما أدنى علاقة إسلامية أو إنسانية !!
لاحظ ماذا يقول الامام ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) ؛ كما يرويه الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، قال : قيل لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : كيف أدعو لليهودي والنصراني ؟!
عجيب ، تدعو مع أن هناك - الآن - ثقافة تقول : تجنبه ! أبغضه ! أعلن أن بيننا وبينك براء ! في حين أن الله عز وجل يقول ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [ البقرة/ 83 ] .
السائل يسأل : كيف أدعو لليهودي والنصراني ، قال : تقول بارك الله لك في دنياك )([6]) على أقل التقادير إذا كنت تعتقد أنه على باطل ؛ وأنت مصيب في هذا ، لكن ليس بالضرورة أن تعبر له عن وجه الخصومة بينكما . وقد أمر الله عز وجل لموسى وهارون أن يذهبا إلى فرعون ﴿ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا ﴾ [ طه / 43، 44 ] .
أما أن يأتي بين المسلمين من يقول ( جئناكم بالذبح ) !
أي دين هذا الذي جئتم ؟!
بالتأكيد ليس هو دين الله ، وليس هو دين رسول الله الذي أرسله الله عز وجل ﴿ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [ الأنبياء / 107 ] .
لا ، بل هذا دين آخر ؛ لا ينتمي إلى الله عز وجل بأدنى صلة .
2 - التوازن النفسي
القاعدة الثانية ضرورة الحرص على التوازن النفسي ؛ كما أشرنا . ليس المطلوب هو أن نتواصل مع الناس كيفما اتفق ؛ ولو على حساب ما أراد الله عز وجل للإنسان المؤمن بشكل خاص أن يكون عليه ؛ وهي أن يكون عزيزاً كريماً ، وتواصله على أساس سليم . يعني أن تواصل بالإحسان ، وليس على أساس الذل .
عن يحيى بن عمران عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) . قال الإمام الصادق : كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول ليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس والاستغناء عنهم . يكون افتقارك إليهم في كلامك وحسن سيرتك . ويكون استغنائك عنهم في نزاهة عرضك ، وبقاء عزك )(
[7]).
يعني فليكن تواصلك الاجتماعي مبنياًّ على أساسٍ سليمٍ ؛ فيه شيء من التوازن .
لو أردنا أن نترفع ونتعزز على الناس سنكون من أهل الكِبر والتجبر ، بالتالي لابد أن نليِّن كلامنا مع الناس ، وثقافة الإسلام هي أننا إذا التقينا مع بعضنا نقول ( السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ) . هذا التعبير ينم عن القواعد التي ينطلق منها المسلم في تنظيم علاقته مع الآخرين ومع الناس .
فتحتاج إلى أن تلين ، لا أن تقول ليبدأ هو بالسلام عليَّ ! لا ، ثوابُ مَن يبدأ السلام أضعاف ثواب مَن يرد السلامَ . والله عز وجل يقول ﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ﴾ [ النساء / 86 ] . وهذا يتطلب توفر التواضع ، تواضع الكبير ، وتواضع العالم ، وتواضع الغني ، وتواضع الوجيه . ليكن هو السبَّاق في هذا الباب .
ليس المطلوب أن يُكسَر الطرف الآخر ، لكن أيضاً كلُّ واحدٍ منا لا أن يشعر بأن الإسلام حينما يأمرنا بالتواصل الاجتماعي أن نكون أذلاء ! أن نتودد إلى درجة يكون الدافع فيها هو الذلة والانحطاط الداخلي . هذا أمر مرفوض في منطق الإسلام ومنطق أهل البيت ( عليهم أفضل الصلاة والسلام ) يقول ( ويكون استغنائكم عنهم في نزاهة عرضك ) .
لا تبِع كرامتك من أجل التواصل الاجتماعي . إذا وجدت مَن تريد التواصل معه أنه يريد أن يذلك . لنفترض يتعمد إطالة فتح الباب لك ؛ إذا طرقت الباب ؛ دون سبب !
مثلاً - كنموذج - : لنفترض أن شخصاً يعلم بأنه إذا طرقت الباب على فلان ؛ وهو موجود ، يتعمد تأخيرَه حتى يراه الناسُ أنه يقصد فلاناً ليزوره ، أنه هو المزور وأن ذاك هو الزائر .
هذا الإحساس ليس إحساساً حميداً ، وليس إحساساً حسناً .
أو يتعمد الشخص أن يتغافل عنك ؛ إذا وجدك في مجلس ؛ حتى تكون أنت مَن يبدأ بالسلام عليه ، مع أنه هو كان المفروض أن يبدأ السلام عليك ؛ لسبب أو لآخر .
قد نواجه مثل هذه الحالات .
لا بأس بالإنسان أن يحمل ، بل ينبغي ، أن يحمل أخاه على المحمل الحسن ، لكن لو كان عندنا علمٌ بأن هذا يريد الإذلالَ ، يريد الإهانة ، لا ، ليس مطلوباً في مثل هذه الحالات التواصل الاجتماعي .
هل نستغني عن هاتين القاعدتين ، وهذه المنطلقات وغيرها من منطلقات وقواعد ؟
الجواب : كلا ، بل يجب أن نحرص جميعاً على إشاعة السلم الاجتماعي بين الناس ، حسن التواصل الاجتماعي بين الناس ؛ أيا كان شكل التطبيق .
في السابق كان التواصل بين الناس محدوداً بأشكال متعددة ، اليوم تنوعت التطبيقات وأشكال التواصل الاجتماعي بين الناس .
لكن هذا التعدد والتنوع لا يعفيك من مراعاة مثل هذه المبادئ ، ومثل هذه القواعد ؛ التي نحمد الله عز وجل أن لنا أئمةً ؛ يتمثلون في رسول الله وفي آله ، ورثنا عنهم هذا الكمَّ الهائلَ ، الذي جعل سمعة مع أهل البيت ( عليهم أفضل الصلاة والسلام ) وتاريخهم سمعةً حسنةً وتواصلاً حسناً ؛ حتى أن بعض المغرضين ؛ حينما يريد أن ينبه جماعته الذين لا يريد منهم أن يتواصلوا مع الشيعة ، يقول : لا يغرنكم الشيعةُ بحسن أخلاقهم .
الحمد لله هناك أخلاقيات ، ويجب علينا أن نحرص عليها .
من تسوء أخلاقه يسيء إلى رسول الله وآله
ولذلك ، فإن مَن يسيء من اتباع أهل البيت ( عليهم أفضل الصلاة والسلام ) ؛ بسوء من القول ، وبفاحش من القول ، بالخصوص ما يمكن أن نسمعه في الوسائل الإعلامية العامة ، هؤلاء ذنبهم مضاعف ؛ لأنهم يسيؤون إلى أهل البيت ، يجرحون قلب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؛ لأن أعمالنا تُعرض على الله وعلى رسوله وعلى أهل البيت ( عليهم أفضل الصلاة والسلام ) . أولم يقل الله عز وجل ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ [ التوبة / 105 ] .
من أراد أن يدخل السرور على قلب رسول الله ، وعلى قلب أهل البيت ( عليهم أفضل الصلاة والسلام ) ، فليحسن التواصل الاجتماعي ؛ مع المؤالف والمخالف ، القريب والبعيد . مع أن لك الحق في أن تأخذ حقك ، لكن بالحق . حتى في مقام الخصومة - نعوذ بالله - لا يجوز أن يكون الإنسان فاجراً في خصومته بين الناس ، بل يجب أن يكون مقِراًّ للحق ؛ ولو كان الحق عليه ، والحقُّ بطبيعته مرٌّ
نسأل الله عز وجل أن نكون وإياكم من أهله .
اللهم صل على محمد وآله محمد .
اللهم كن لوليك الحجة ابن الحسن ؛ صلوتك عليه ، في هذه الساعة ، وفي كل ساعة ، ولياًّ ، وحافظاً ، وقائداً ، وناصراً ، ودليلاً ، وعيناً ؛ حتى تسكنه أرضك طوعا ، وتمتعه فيها طويلاً .
اللهم انصر الإسلام والمسلمين ، واخذل الكفار والمنافقين .
اللهم اشف مرضانا ، وارحم موتانا ، وأغن فقراءنا ، وأصلح أمر ديننا ودنيانا .
وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
([1]) وسائل الشيعة ، ج 12 ، ص 17 ، كتاب الحج ، أبواب العشرة ، 7 - باب استحباب استفادة الاخوان والأصدقاء والألفة بهم ، الحديث 5 .
([2]) وسائل الشيعة ، ج 7 ، ص 25 ، كتاب الصلاة ، أبواب سجدتي الشكر ، 2 - باب استحباب الاكثار من الدعاء ، الحديث 9 .
([3]) وسائل الشيعة ، ج 12 ، ص 9 ، كتاب الحج ، أبواب العشرة ، 2 - باب استحباب حسن المعاشرة والمجاورة والمرافقة ، الحديث 3 .
([4]) وسائل الشيعة ، ج 12 ، ص 51 ، كتاب الحج ، أبواب العشرة ، 29 - باب استحباب التحبب إلى الناس و التودد إليهم ، الحديث 1 .
([5]) وسائل الشيعة ج 12 ، ص 5 ، كتاب الحج ، أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر ، 1 - باب وجوب عشرة الناس حتى العامة بأداء الأمانة ، الحديث 1 .
([6]) وسائل الشيعة ج 12 ، ص 84 ، كتاب الحج ، أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر ، 54 - باب جواز مكاتبة المسلم لأهل الذمة ، الحديث 2 .
([7]) وسائل الشيعة ، ج 12 ، ص 8 ، كتاب الحج ، أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر ، 1 - باب وجوب عشرة الناس حتى العامة بأداء الأمانة ، الحديث 9 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق