نحمد الله عز وجل على أن وفقنا وإياكم أن نكون من ضيوفه في هذا الشهر الكريم . المسلمُ الصائمُ هو في ضيافة الله ، والمضيف هو الله سبحانه وتعالى ؛ وهو القائل عز وجل ﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ [إبراهيم/ 7] .
أن يُوفَّق الإنسانُ لأن يكون من ضيوف الله عز وجل في هذا الشهر الكريم فلذلك دلالات كثيرة جدا ، وهناك معطياتٌ كثيرةٌ جداًّ . وبالتأكيد لن نوفق لأن نحظى بهذه العطاءات والعطايا من الله عز وجل ما لم تكن الخريطة بالنسبة لنا واضحةً .
ماذا يعني لنا شهر رمضان ؟
وماذا ينبغي أن نسعى وراءه في هذا الشهر الكريم ؟
ولا أعتقد أن أحداً من المسلمين يجادل في أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هو صاحب الكلمة الفصل في هذا الصدد . فقد روي عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنه كان يستقبل شهر رمضان ؛ إذا رأى الهلال ، بما رواه الشيخ الصدوق وغيره ، قال عن أبي جعفر الباقر ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) : إِذَا نَظَرَ إِلَى هِلَالِ شَهْرِ رَمَضَانَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ بِوَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ :
اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْأَمْنِ وَالْإِيمَانِ ، وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ ، وَالْعَافِيَةِ الْمُجَلِّلَةِ ، وَالرِّزْقِ الْوَاسِعِ ، وَدَفْعِ الْأَسْقَامِ ، وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ ، وَالْعَوْنِ عَلَى الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ . اللَّهُمَّ سَلِّمْنَا لِشَهْرِ رَمَضَانَ وَسَلِّمْهُ لَنَا وَتَسَلَّمْهُ مِنَّا حَتَّى يَنْقَضِيَ شَهْرُ رَمَضَانَ وَقَدْ غَفَرْتَ لَنَا )(١).
الفقرة الأخيرة في هذا الدعاء الوجيز والمركَّز هي الغايةُ التي يريد رسولُ الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن تتوجه أنظارُنا نحوَها ، وما ذُكِر في بداية ذلك هو - في الحقيقة - الظرفُ الزمنيُّ ؛ الذي هو شهر رمضان ، والأدواتُ التي ينبغي أن يستعين بها الإنسانُ من أجل تحقيق هذه الغاية العظمى .
ماذا يعني أن يُغفَر للإنسان ؟
أن يُغفَر للإنسان ، يعني : أن يرجع إلى الله سبحانه وتعالى كما أنزله إلى عالم الدنيا . فإن الله سبحانه وتعالى أنزل الإنسانَ وأخرج كلَّ واحدٍ منا طاهراً نقياًّ ليس في عنقه هي لأحد مظلمةٌ ، وليس قد ارتكب في حقِّ أحدٍ ظلماً ولا جرماً ، كما لم يكن في عنقه تقصيرٌ في حق الله عز وجل . ولذلك يقال لهذا الطفل الصغير بريء ، نسميه بريء .
هذه البراءة الموجودة في الطفولة هي ما يريد اللهُ سبحانه وتعالى للكبار أن يصلوا إليها . والفارق بينهما هو : أن براءة الطفل وبراءة الكبار اختيارية .
نحن ننشد أن نكون من أهل البراءة والنظافة والنقاء ﴿ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ﴾ [التوبة/ 108] ، و ( النَّظَافَةُ مِنْ الْإِيْمَانِ ) ؛ كما وردفي الحديث الشريف(٢). الطهارة والنظافة بالمعنى الشامل ؛ سواء طهارة الأجساد والأبدان ، أو طهارة الأرواح ، أو طهارة العقول .
لا يمكن للإنسان إذا تلوث عقلُهُ إلا أن يجره هذا التلوثُ إلى سلسلة من الجرائم والأخطاء تجعله مقصِّراً في حق الله عز وجل وهو الخالق ، وفي حق المخلوقين . وبالتالي ، عليه أن يدفع الثمنَ في عالم الدنيا قبل عالم الآخرة .
فالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يريد لنا أن تُغفَر ذنوبُنا .
أي ذنوب ؟
أول هذه الذنوب ( الذنوب العقلية ) ، والتي تجعل الإنسانَ تختلط عليه الصورُ ؛ فلا يستطيع التمييزَ بين الصواب والخطأ . وإذا وقع الإنسانُ في مثل هذا الاختلاط لا ينفعه أن يرفع نبيٌّ بصوت الوحي . حتى إذا رفع الأنبياءُ بصوت الوحي إذا أصر الإنسانُ ؛ في حالة الخطأ العقلي ، على فكرةٍ خاطئةٍ في مقابل النبي الذي جاء ببرهانٍ من عند الله عز وجل ، لا ينفعه . بل يسمى في عرف القرآن ومصطلحه ( ميت ) . وإنما يستجيب - للخطاب الإلهي والخطاب الرباني - الأحياءُ ، أما الموتى فلا يسمعون ، لا فائدة من أن نتحدث مع ميتٍ(٣).
ولا يُراد بـ( الميت ) هنا ! ولا يُراد منه الميت الجسدي ، لأن الأنبياء لا يذهبون إلى المقابر ويدعونهم ، وإنما يجولون بين الناس الأحياء في أبدانهم يخاطبونهم . لكن هؤلاء ؛ الذين يخاطبهم الأنبياء ، فيهم الأحياء ، وفيه الموتى . الأحياء هم الذين يستجيبون لنداءات الرسل(٤).
على أي مستوى ؟
مستويات المغفرة الذنوب
المستوى الأول : هي أن يغفر ذنبهم الفكري
الذنب الفكري والعقلي ، هو الذي يجعل كثيراً من الناس يمارسون عملية تضليل للآخرين ، وقبل ذلك تضليل لأنفسهم . بأن يقلبوا الحقائقَ فيجعلون الحقَّ باطلاً والباطلَ حقاًّ .
ولسنا في حاجةٍ إلى أن نبذل مؤونة لنراجع التاريخَ ، يكفيك أن تطَّلع على نشرة أخبار واحدة - في هذه الأيام - لتعرف كم يمارس الإنسانُ في حقِّ نفسِهِ الكثيرَ من الأذى ؛ حتى يمسخ الناسُ .
هناك مسخ ، هذا الذي نجده ونتابعه في وسائل الإعلام يعبر عن مسوخ إنسانية . ويشتد الأسف والأسى إذا مُورس ذلك باسم الله عز وجل ، باسم الدين ، باسم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . هذه آفة كبرى .
في مثل شهر رمضان تُتاح فرصة لمن رغب ، لمن أراد ، أن يصحح أخطاءه الفكرية ؛ ليستغفر اللهَ عز وجل من الذنوب من هذا النوع .
أما الذنوب الثانية هي : ذنوب الأرواح
الإنسانُ - إذا تلوث فكره - يُفتح له بابٌ آخر من الشقاء ؛ هو التلوث الروحي .
بأن يحب مَن لا ينبغي أن يُحب ، ويكره من لا ينبغي أن يكره .
مَن الذي ينبغي أن لا نحبه ؟
من بيَّن اللهُ عز وجل لنا عداوته لنا ؛ وهو الشيطان الرجيم ، ومشتقات الشيطان الرجيم ؛ لأن الشيطان الرجيم ؛ الذي هو إبليس ، فرَّخ وباض وأنجب . أنجب الجن وأنجب من الإنس ، ولو أننا كُفِينا من الجن ؛ فإنه عالم لا نراه ، نستعيد بالله عز وجل منه ، فإن علينا أن نراقب أنفسنا أشدَّ المراقبة من شياطين الإنس .
من قبيل هؤلاء الذين يمارسون التضليلَ العلميَّ والتضليلَ الإعلاميَّ ، والذين يريدون أن يأخذوا هذا الإنسان ؛ الذي أراده الله عز وجل له أن يكون من المغفور لهم ، من أهل البراءة ، يريدون أن يلوثوه !! لأنهم لا يرضون أن يكونوا - هم - من أهل التلوث وغيرُهم من أهل البراءة والنقاء .
العادةُ جرت على أن الإنسان إذا ارتكب شيئاً ؛ ورآه حسناً ، زينه لنفسه ، ويمارس عملية التزيين للآخرين ؛ حتى لا يشذ في أوساطهم فيُشار إليه بالبنان أنه من المنحرفين دون من سواه !! وبالتالي ، زُيِّن لهم هذه السوءات التي يمارسونها . هذا ذنب .
كيف ينقي الإنسان نفسه ؟
المرحلة الأولى : هي المرحلة العقلية . ولذلك علماء الأخلاق يقولون : أول خطوة ، من أوائل الخطوات ، التي على الإنسان السائر إلى الله سبحانه وتعالى ، والراغب في إصلاح الوضع ، أن يحاسب نفسه ، ويراقب نفسه ، ويشارطها . فإذا لم يعرف أن هذا خطأ ، وأن هذا صواب ، كيف يشترط على نفسه أن يفعل الحسن ويترك القبيح ، وهو لا يعرف الحسنَ ولا يعرف القبيح ؟!
هذا أمرٌ مهمٌّ جداًّ .
تلوث النفس هي التي تجعل بعضَ المخلوقين مثلَ إبليس ؛ يعرف الحقَّ حقاًّ ، ويعرف الباطلَ باطلاً ، لكن هواه المتضخمة ، أناه المتضخمة ، جعلته يقاوم اللهَ سبحانه وتعالى ؛ فيقول ﴿ أَنَا ﴾ - ويشير إلى نفسه الخبيثة - ﴿ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ﴾ [الأعراف/ 12] ، بالنسبة إلى آدم . ولم يُعدَم الدليل ؛ الذي ابتكره واصطنعه زوراً ، حيث قال ﴿ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ [الأعراف/ 12] !
من قال ؟ من جاء لك بهذه القاعدة ؛ التي تريد أن تبني عليها ؛ وهي قاعدةٌ باطلةٌ ، أن مَن خُلق من نار خير ممن خُلق من الطين ؟!
لعل هذه الشبهة ؛ التي أراد أن يسوِّقها على الآخرين ، أن النار صفراء ، حمراء ، تتحرك ، زاهية ، في حين أن الطين ساكن ، لا حركة فيه !!
هكذا يريد أن يأخذ زاويةً لا تمثل الأمرَ الحسنَ ؛ والذي ينبغي للإنسان أن يجعل ملاكاً للحق والباطل ، وملاكاً للصواب والخطأ . ينفتح له من هذا باب من أبواب الشر ؛ لا ينجيه إلا الله سبحانه وتعالى منه .
النوع الثالث : هي ذنوب الجوارح التي يمارسها
الإنسان تبعاً للتلوث في عقله وفكره ، والتلوثِ في روحه ؛ لأن الإنسان إذا ضل فكريا وعلميا ، وضل من الناحية الروحية ، لا يرجى إلا أن تكون جوارحه تبعاً لهذه الروح ، وتبعاً لهذا العقل ، فيقارف ما رغب له وما شاء له الشيطانُ أن يقارفة ، مع أن الله سبحانه وتعالى حذره منه .
شهر رمضان ، هي الفترة الزمنية الاستثنائية التي يُتاح للإنسان فيها أن يحصل على مغفرة الله عز وجل . والمغفرة تعني الستر ، تعني الوقاية ، والعرب يقولون : وضع على رأسه المغفر ، يعني الواقي على رأسه في أثناء الحروب ، شيء يُتخذ من الجلد أو من المعدن حتى إذا وقع السيف على رأسه يقيه هذا المغفرُ من أذى هذه الآلة التي وقعت على رأسه .
المغفرة من هذا القبيل ، المغفرة هي نوع من أنواع الوقاية نضعها على عقولنا وعلى أرواحنا وعلى أجسادنا ؛ حتى لا نمارس هذا الخطأ ، ولا يهجم علينا هذا الخطأ ، وكذلك الخطايا .
في شهر رمضان تتاح لنا الفرصة أن نحصل على هذه العطية الإلهية أكثر مما نحصل في غير شهر رمضان ، مع أنها متاحة في غير شهر رمضان ، لكن في شهر رمضان ورد في خطبة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : الشَّقِيُّ مَنْ حُرِمَ غُفْرَانَ اللهِ فِي هَذَا الشَّهْرِ )(٥). هذا شقي ، يعني من يتاح له أن يكسب مغفرة الله سبحانه وتعالى ، وأن يتجاوز عنه ذنوبه في شهر رمضان ؛ مع إتاحة كل ما يلزم ، بكل سهولة ، فإن هذا من الأشقياء .
وكيف يكون هذا الإنسان من الأشقياء ؟!
إذا ابتلي بالكسل في شهر رمضان . الكسل عما ذكره رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؛ تلاوة القرآن ، الصلاة ، الصيام ، هذه الوسائل معِدة لنا ؛ لأن الإنسان إذا وفق في شهر رمضان إلى تلاوة القرآن الكريم ، وقد جاء في ثواب تلاوة القرآن الكريم في شهر رمضان من العطاء ما لا ينبغي إلا أن يقف الإنسانُ عنده ويشكر اللهَ سبحانه وتعالى .
قراءة آية بمثابة قراءة ختمة كاملة(٦)، يعني : إذا قرأ الإنسانُ القرآنَ الكريمَ فإن بكل آية من الآيات يُسجل له ثواب ختمة . هذا على مستوى الثواب !
لكن قبل هذا وذاك في الحقيقة هذه الفرصة التربوية التي تحصل للإنسان ؛ بأن يمر مروراً عابراً وسريعاً ، وقد يكون مركَّزاً إذا وفقه الله عز وجل ؛ ليعرف تعاليمَ الإسلام ؛ على مستوى المعارف العقائدية ، على مستوى المعارف الأخلاقية ، على مستوى أمهات المسائل الفقهية .
كل هذا مذكور في القرآن الكريم ؛ حتى لا يقول الإنسان لم أعرف !
في شهر رمضان يُتاح له أن يقرأ ، مع أنه ينبغي في غير شهر رمضان أن يقرأ ، لكن الروحُ نقاؤها في شهر رمضان يفتح مجالاً لاستلهام الدروس والعِبَر من تلاوة القرآن الكريم أكثرَ مما نحصل عليه في غير شهر رمضان .
و كذلك على مستوى النقاء الفكري ، يُفتَح ببركة الله عز وجل في هذا الشهر الكريم لمن يتلو القرآن على دروس لا يحصل عليها في غير شهر رمضان .
وبالتجربة هذا أمرٌ حاصلٌ .
فإذن ، هذه وسائل ثلاث يذكرها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .
لكن قبل ذلك طلب من الله سبحانه وتعالى أن يجعل من شهر رمضان ؛ وهو كذلك ، موسماً زمنياًّ للحصول على أمور عديدة :
الأمر الأول : الأمن والإيمان
نعمة الأمن ؛ الأمن الخارجي والأمن النفسي في داخل الإنسان الاطمئنان ، هذا لا يمكن أن نحصل عليه كما لا يمكن أن نحصل على أي نعمة أخرى إلا من الله سبحانه وتعالى ؛ فإنه عز وجل يقول ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل/ 53] ، لكن هناك نِعَم تحظى بأولوية . من هذه النعم ( نعمة الأمن ) ، الأمن على مستوى ذاتك ووضعك الروحي ؛ فإن الإنسان اذا ابتلي بالقلق ، وابتلي بالوسواس ، فُتِحت أبواب صدره لوساوس الشيطان ؛ حتى إذا كان في حياة رخية ورغيدة ، هذا القلق الروحي كفيلٌ بأن يجعله إنساناً متفجراً .
ألا نجد بعض الناس ؛ الذين يُسلب منهم هذا الإيمان والأمن ، ألا يلجأون - بعضهم - للانتحار ، تجده ينتحر بوسيلة ؛ وقد تكون وسيلةً بشعةً ، والسر في ذلك هو افتقاده لحالة الأمن والاطمئنان الداخلي .
كيف يحصل الإنسان على الأمن ؟
يحصل من الله سبحانه وتعالى مع السعي لتحقيق ذلك .
الجانب الثاني ، والأمر الثاني هو : الإيمان
الإيمان والهداية ليست أمراً نحن نفعله ونحن نصنعه ، إنما هو هبةٌ من الله سبحانه وتعالى ؛ ولذلك الآية تقول ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ [العنكبوت/ 69] . الهداية إلى السبل من الله سبحانه ، أما ما يفعله البشر ففي الحقيقة هو القيام بالمعِدات الأولية ؛ الأسباب الأولى ، وأما النتيجة التي هي الهداية والإيمان هذا أمرٌ من عند الله عز وجل . لكن اللهَ أخذ على نفسه أن مَن بذل الجهد سيعطيه عز وجل الهداية والإيمان ؛ حسب الجهد الذي يبذله ؛ فإنه عز وجل يقول أيضاً ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴾ [النجم/ 39] .
لذلك ، ورد في ما يتعلق بالقران الكريم ، يقال لقارئ القرآن ( اقْرَأْ وارْقَ )(٧) ليس مقصود منه مجرد التلاوة الظاهرية ؛ فإن تلاوة القرآن مطلوب فيها الاتباع . في اللغة يذكرون ( تلا ) ؛ أي : تبع . هذا هو الأصل الصحيح للتلاوة ، ومن أشكال الاتباع أن يكون القرآن على مستوى اللفظ ، نحن نتبع القرآن لفظياًّ لكن الأهم من اتباع القرآن لفظياًّ اتباعُ القرآن معنوياًّ . ولا يعقل أن يقال من اتبع القرآن لفظياًّ في الجنة ( اقْرَأْ وارْقَ ) ؛ لأنه قد لا يكون أصلاً من أهل الجنة . وقد ورد في الحديث الشريف ( رُبَ تَالٍ لِلْقُرْآنِ وَ الْقُرْآنُ يَلْعَنُه )(٨).
ألسنا نعرف ، ونرى ، ونقرأ ، في التاريخ السابق ، وفي الحال الحاضر ، ظالمين وجائرين وطغاة يتلون ؟! ألم يتأبط أحدُهم القرآن الكريم في المحكمة التي حوكم فيها ؛ وقد أباد من أباد من البشر ؟! هل يقال أن هذا ممن يتلو القرآن الكريم ويقال له ( اقْرَأْ وارْقَ ) ! حاشا للجنة أن تستقبل أمثال هؤلاء .
هناك قوانين ، هناك معايير ، هذه المعايير : لا يدخل الجنةَ إلا الطيب ، والله عز وجل جميلٌ لا يرضى إلا بالجميل ، مَن كان حسناً في ذاته ، حسناً في فعله ، كان اللهُ معه ؛ لأن اللهَ مع المحسنين ، ليس مع من يتلون القرآن الكريم فقط ! وإلا فإن الخوارج كانوا يقرأون القرآن الكريم ، وبالتأكيد : الخوارج الحاليين يقرأون القرآن الكريم ؛ حتى إذا قرأ أحدُهم بياناً تجد أن الاهتمام بالإدغام والإخفاء .
أمر مستغرب !
لكن بالتأكيد هو لا يجاوز تراقيهم(٩)؛ لأن مَن يرفع سكيناً وينحر بني آدم وإنساناً ؛ على خلاف ما جاء من عند الله ، وعلى خلاف ما جاء من رسول الله ، القرآن لن يكون إلا حجة عليه ؛ ولن يكون حجة له ؛ لأن القرآن ﴿ لَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾ [الإسراء/82] ، نعوذ بالله أن نكون وإياكم من الظالمين .
فالأمن والإيمان أمران مهمان .
ثم إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سأل الله عز وجل السلامة والإسلام . ولعل الفرق بين الأمن في الفقرة الأولى ، والسلامة في الفقرة الثانية ، أن الأمن يرتبط بالبعد المعنوي والبعد الباطني للإنسان ، والسلامة ترتبط بالبعد الخارجي والجسدي للإنسان ، وكلاهما أمرٌ مطلوبٌ .
نسأل الله أن يمنَّ على كل مريض بالشفاء ، وعلى كل فاقد بالأمن ، أن يرجع إليه الأمن كما يحب ويرضى ، وأن يعيد الأمن إلى بلاد المسلمين جميعاً ؛ في شرق الأرض وغربها ، وأن يكفينا وإياكم شر كل ذي شر من الداخل والخارج .
الأمر الأخر الذي طلبه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ( الإسلام ) .
وليس المقصود بالإسلام - هنا - أن يكون الإنسان مسلماً ؛ لأن رسول الله هو الداعيَة للإسلام ، ولا يمكن أن يطلب تحصيل الحاصل ؛ لأن هذا لا يقدم عليه العاقلُ . المطلوب - هنا - من الإسلام هو الاستسلام . الإسلام له مرحلة وهي التي ينطق بالشهادتين فيعد مسلماً ظاهراً ، فإذا استقرت القناعة في قلبه كان مؤمناً واقعاً ، لكن أن يترجم إسلامه هذا عملياًّ ؛ بأن يسلِّم بما جاء من عند الله عز وجل ، مثلُ هذا يكون مسلماً ، وهذا ما يريده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
والإسلام هنا ؛ كما أن الإيمان في الفقرة الأولى مراتب ، مسائل نسبية ، تبتدئ بمرحلة أولى ولا حد لأعلاها . فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسأل الله الإيمان مع أن سيد المؤمنين ، ويسأل الله الإسلام وهو سيد المسلمين .
كيف يتحقق ذلك ؟
لأنه حتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هناك مراتب إيمانية ينشدها ومراتب إسلامية أعلى ينشدها ، مع أنه نبي الإسلام وسيد المسلمين ؛ لأن الإسلام مراتب كما أن الإيمانَ مراتب .
ثم إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طلب أموراً ثلاثةً قد يُبتلى بها الناس ، ولكن مع ذلك هي أمرٌ مطلوبٌ :
1 - أولاً : العافية المجلِّلة ؛ منَّ الله سبحانه علينا وعليكم وعلى جميع المسلمين بالشفاء والعافية من كل سقم ومرض .
العافية المجلِّلة : الشاملة . يعني : العافية في جميع أنحاء البدن ولجميع الناس .
2 - ثم ( الرزق الواسع ) . هذا أمرٌ أيضاً مطلوبٌ ؛ لأن الاقتصاد إذا أغفله الناس ضعفت أحوالُهُم ، وإذا ضعفت حالُهُم سيطر عليهم عدوُّهُم الظاهريُّ وعدوُّهُم الباطنيُّ تختل أحوالُهم ! ومن هنا ، فإننا مكلَّفون أن نكون أقوياءَ - كمسلمين - على جميع المستويات ، بما في ذلك المستويات الاقتصادية .
أوليس الاستكبارُ العالمي اليوم يتحكم في مفاصل الدول العالمية بسبب الاقتصاد . الدخل القومي لأي بلد من البلدان يجعلها دولةً محترمةً ؛ وإن كانت تختار منهجاً غيرَ محترمٍ للأسف الشديد . نحن نعرف دولاً صغيرةً جداًّ فقيرة فيها عقلاء فيها أهل علم لكن فقراء لا يعتد أحد برأيهم في حين ، الدول الغنية تأمر وتنهى ، وبعض الدول تعربد في العالم وتأخذ ، تذهب يميناً ويساراً ، كل الدول يقال لها لا يسمح أن يتدخل في شؤننا ، لكن هناك وزراء كأن لا شأن لهم في بلدانهم ، شغلهم الشاغل ، يركبون الطائرات ، يذهبون إلى هذه الدولة ، تلك الدولة ، والدولة الأخرى ، يصرحون هنا ويصرحون هناك ، ويرضون بأمر هنا ولا يرضون به هناك ، ولا يستطيع أحدٌ أن يقول لهم كفُّوا ! ليس لكم حق في التدخل في شؤوننا !
السبب ما هو ؟
أحد الأسباب هو هذه القدرة الاقتصادية التي توفرت لهم .
لذلك ، يخطئ المسلمون اذا لم يكونوا جدِّيِّين في التعامل مع هذه المسألة بما ينبغي .
الأمر الأخر الذي طلبه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو دفع الأسقام ، وهو طلب العافية المجللة ؛ يعني ارتفاع الأمراض ، لكن في هذه الفقرة هو يريد دفع الأسقام ؛ يعني رفع الأسباب التي من شأنها أن تجعل الإنسانَ في مرض . هذه هي الوقاية ، والوقاية خير من العلاج . إذا كان في الفقرة الأولى طلب علاجاً ، وهنا يطلب وقايةً حتى لا يبتلى بهذه المرض .
أسأل الله أن نكون وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه .
اللهم صل على محمد وآل محمد .
اللهم كن وليك الحجة ابن الحسن صلوتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة ، وفي كل ساعة ، وليا وحافظا وقائدا وناصرا ودليلا وعينا حتى تسكنه أرضك طوعاً وتمتعه فيها طويلاً .
اللهم انصر الإسلام والمسلمين واخذل الكفار والمنافقين .
اللهم اشف مرضانا ، وارحم موتانا ، وأغن فقراءنا ، وأصلح ما فسد من أمر ديننا ودنيانا .
اللهم اجعل تدمير أعدائنا في تدبيرهم إنك على كل شيء قدير .
وصلى الله على محمد وآله الطيبين
هوامش:
---------
(١) وسائل الشيعة عن المجالس وثواب الأعمال للشيخ الصدوق ، ج 10 ، ص 321 ، برقم ( 13510) .
(٢) مستدرك وسائل الشيعة ، ج 16 ، ص 319 ، برقم ( 20016 ) .
(٣) قال الله تعالى { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ، وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [الأنعام/ 36] .
(٤) قال الله تعالى { إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى ، وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل/ 80] .
(٥) وسائل الشيعة عن فضائل الأشهر والأمالي للشيخ الصدوق ، ج 10 ، ص 313 ، برقم (13494) .
(٦) وسائل الشيعة عن فضائل الأشهر والأمالي للشيخ الصدوق ، ج 10 ، ص 313 ، برقم (13494) .
(٧) وسائل الشيعة ، ج 6 ، ص 189 ، برقم ( 7696 ) .
(٨) مستدرك وسائل الشيعة ، ج 4 ، ص 249 ، برقم ( 4616 ) .
(٩) رواه الحاكم في المستدرك في كتاب قتال أهل البغي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق