خلال سنوات ما يعرف - اصطلاحاً - بالربيع العربي انكشف الكثير من الأمور الخافية، ومعها نقاط الضعف والنواقص، ولعل أبرزها ضعفنا الشديد في توليد المحتوى في أوج سطوة المعلوماتية وأدواتها على حياتنا بمساراتها المتعددة؛ في العمل والعلاقات الاجتماعية والمنزل التي لن تفارقك حتى تودعك الفراش! ونحن تتركز مهمتنا إجمالاً في تناقل المحتوى وإعادة إرساله.
أما مساهمتنا فيما يتعلق بتوليده وإنتاجه وبثه فمحدودة لحدّ مُحرج، والحديث هنا ليس عن توثيق الأحداث والأخبار على القنوات المتعددة التي تصبح - فيما بعد - مقاطع تتناقلها الأجهزة الذكية، بل عمن يولد أهم ما يؤثر على آرائنا كأفراد وكنخب مثقفة وصانعة قرار وصناع الرأي العام، بل حتى على الرأي العام نفسه في بلدنا وفي بلدان أخرى كثيرة.
قبل أيام قرأت مقالاً لتوماس فريدمان يتحدث فيه عن الأوضاع في مصر وعن داعش، محاولاً عقد مقارنة بينهما، وقد لقي المقال انتشاراً واسعاً في دوائر المثقفين والمتابعين، والسبب أن ما كتبه السيد فريدمان كان نقلاً عن باحث في أحد مراكز البحث ”الإسرائيلية“ المتخصصة، ما يسمى ”خزانات الفكر“.
بمعنى أن ما نقله فريدمان لم يكن تحليلاً شخصياً، بل كان عملاً أكاديمياً يقوم على افتراضات محددة وجمع للحقائق والعمل على تحليلها والربط بينها ومناقشتها منهجياً.
وكل هذا لا يعني أن يتفق أحدنا - بالضرورة - مع ما يصدر عن ”خزانات الفكر“ هذه، لكن النقطة هنا أنها مراكز مؤثرة، وتأثيرها يتضح مما بينته أعلاه، وسريان التأثير يأخذ مراحل: يعدّ البحث، ينشر في دوائر متخصصة، ثم ينتقل لقنوات إعلامية جماهرية فيتداوله الناس، ويعيدون تداوله ونقاشه، فيصبح ما خلص إليه البحث جزءاً من أجندة النقاش.
وفي المثال السابق، نجد أن بحثاً صدر عن خزان بحث في ”إسرائيل“ قد وجد طريقه إلينا ليخبرنا عن داعش وعن مصر! وهنا، لا أستهجن، بل أقول: إن ما يوضع لنا على ”الطاولة“ أفكار ووجهات نظر مستوردة، وأضيف أن ”الطاولة“ محتلة بالكامل تقريباً بوجهات النظر المستوردة تلك!
فهل هناك مؤامرة عالمية ليكتسح طاولتنا الفكرية المحتوى الأجنبي، المولود خارج المنطقة العربية؟ لا.. بل نحن من يُصرّ على عدم انشاء ”خزانات الفكر“ المستقلة محلياً وفي منطقتنا.
لذا تجد المراكز الأجنبية تستقطب باحثين عربا ليعدوا بحوثاً تنتج أفكاراً تؤثر على الساسة ومتخذي القرار في كل مكان!
أمر محيّر فعلاً، أن تكون منفتحاً على استقبال المحتوى المعلوماتي من كل مكان، ثم لا تسعى جاهداً الى ان تنتجه وتنشره عالمياً، فما الفارق بين أن ينشر أحدنا رواية تحوي ما لا يروق للبعض، لكنها تلقى رواجاً وتترجم للغات الدنيا، لكنها لا تنشر محلياً!
هي تبقى أفكارا ووجهات نظر، والأمر لا يختلف كثيراً عند تناول أي ناتج فكري بما في ذلك القضايا الاستراتيجية، سوى أن المُتبَع في العديد من خزانات الفكر أنها لا تنشر كل ما تُنتج، بل ما تريد أن تنشره لإيصال رسالة معينة أو للدفع بتوجه محدد.
بمعنى أن للعديد من تلك ”الخزانات“ أجندات وتطلعات، وهي ليست خافية، بل معلنة في الكثير من الأحيان وعلى رؤوس الأشهاد من خلال مواقعها على الانترنت وعلى نشراتها وتقاريرها وكتبها.
لعل الوقت أزف، لأن نطلق عدداً من ”خزانات الفكر“ التابعة لجامعاتنا، بل يفضل أن تكون مستقلة حتى عن الجامعات، يستقطب لها خبراء ممارسون وليس بالضرورة الاكتفاء بالأكاديميين.
وبذلك يمكن مزج الخبرة العملية مع المنهجية الأكاديمية لإخراج تقارير وبحوث رصينة تستمد قوتها من الواقع، ومن الملائم أن تتمتع هذه المراكز بالاستقلالية الفكرية.
بمعنى أن ما يصدر عنها يمثل وجهة نظرها وليس بالضرورة الجامعة الحاضنة لها، وليس الهدف من خزانات الفكر هذه توليد مواد لتغذية الصحف فيها كما حدث مع ما نقله فريدمان عن الباحث ”الإسرائيلي“.
فالعديد من المراكز بوسعها أن نتنج بحوثاً تساعد متخذ القرار في إعداد تقارير حول الأوضاع القائمة أو المستجدة، بمعنى أن ”خزانات الفكر“ تمثل في مجملها مخزونا استراتيجيا من الخبرة المجربة في مجالات متنوعة.
لذا من المعتاد أن تجد أن خزانات الفكر في واشنطن ولندن وسواهما مليء بالمتقاعدين من السفراء والسياسيين والبيروقراطيين المحنكين.
فهؤلاء لا يمكن أن ترسلهم للمجلس وتجبرهم على أن ”يتسكعوا“ في الديوانيات، بل تسعى جاهداً لاستخلاص خبرتهم وتوظيفها بما يساهم في ترشيد القرار وتوسيع قاعدة الأدبيات التي يستند إليها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق