شدد الشيخ عبد الله النمر على أهمية سنة الابتلاء في بناء الإنسان وإبراز جوهره، مبينا أنه لا يعني فرز الناس إلى أنواع متباينة فحسب، بل يعني المساهمة الإلهية في صنع الإنسان وإبراز حقيقته في الواقع.
وابتدأ سماحته الخطبة الأخيرة تاليا الآية الكريمة (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ* مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ..).
وأوضح سماحته أنّ الآية تتطرق إلى سنة من سنن الله وهي سنة الابتلاء والاختبار والتمييز، ولكي نستوضح بعض آفاق هذه الآية يجب أن نفهم منطق القرآن، فالقرآن لا يقصد من الكفار فئة خاصة وأخرى مسلمون، هم وأبناؤهم وذراريهم، فالله سبحانه لا يميّز الناس اعتباطا إلى كفار هم وأبناؤهم وذرياتهم، مهما يكن ما يصنعون، وفئة أخرى، مسلمون تقيون نقيون، هم وأبناؤهم وذراريهم، كيفما صنعوا. وإنما يمايز بينهم بحسب حقائقهم، ولكن يقصد عموم من يخالط قلبه الكفر.
· سنّة عامة
وأضاف سماحته: هذه السنّة تتميز بكونها سنة عامة، يظهر من قوله ( ما كان الله ليذر المؤمنين):لا ينفي حادثة معينة، ولكن يتحدث عن الشأن الإلهي "ليس من شأن الله ولا من دأبه وعادته"، أي أنها من السنن السارية على كل الأمم والمجتمعات، أن من شأن الله لا يترك الناس على ما هم عليه.
- الالتفات: ( ما كان الله ليذر المؤمنين) المؤمنون الآن غائبون وكأنما يخاطب الرسول (ص)، وفجأة يلتفت في الخطاب ( على ما أنتم عليه)، لو كانت اللغة سارت على عفويتها لكان بصيغة الغائب "على ما هم عليه"، ولكن قال أنتم. وفي هذاتأكيد وتحذير وتنبيه.
- الابتلاء سنة جارية عامة شاملة لكل الأمم، ولا تقتصر على أمة دون أخرى، تسري على والأفراد وكل جزئيات الفرد الواحد، على مدى تاريخ البشرية والأمم.
- ليس فقط على مستوى الأمة كأمة، بل ينحل ليشمل ابتلاء الأفراد فردا، بل على مستوى كل فرد هناك قصد خاص، بل كل فرد يبتلى بأحداث، وكل حدث له هدف.· ابتلاء الأمثل
- روى جعفر الجعفي: قلت للباقر(ع): متى يكون هذا الأمر،(أي كتى يكون فرج الناس، ويعم العدل على الأرض) فقال(ع): هيهات هيهات، لا يكون فرجنا حتى تغربلوا ثمّ تغربلوا ثمّ تغربلوا، حتى يذهب الله الكدر ويبقي الصفو".
- وعن الصادق (ع) : لتمحصن يا معشر الشيعة، شيعة آل محمد كمخيض الكحل في العين فيصبح أحدكم وهو يرى أنه على شريعة من أمرنا فيمسي وقد خرج منها ، ويمسي وهو على شريعة من أمرنا فيصبح وقد خرج منها".
أي تتقلب أجوال الناس، الامتحان ليس لخصوص الشيعة ولكن هو للأنبياء ثم الأولياء ثم للأمثل فالأمثل، ولذلك يزداد على الشيعة باعتبار قربهم زنسبتهم إلى آل محمد (ص).
- وعن أبي عبد الله الصادق (ع) قال: والله لتكسرن تكسر الزجاج وإن الزجاج يعاد فيعود كما كان، والله لتكسرن تكسر الفخار وإن الفخار لا يعود كما كان، والله لتميزن لتمحصن والله لتغربلن كما يغربل الزؤان من القمح. نوع من النبات ينبت قريب من القمح ويختلط به حال الحصاد.
- إذا الابتلاء عملية متقررة في واقع هذا الخلق، فلا يظن أحد أن ما في يده من النعم ومن الولاية أمر ثابت جدا ولكن هناك حالة من القلق والابتلاء المقلقة.
· علّة الابتلاء
إذا ما هو الغرض من هذا الابتلاء؟- الآية الكريمة (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ).كما يمس الآخرون الابتلاء والألم يمسّكم.
- العلم الإلهي في ثلاث مراتب، منها العلم القديم الذي لا يترتب، ومنها العلم الفعلي وهو " التحقق" في الواقع، الإبتلاء هو الذي يمخض ويحقق الشهداء، بهذا الابتلاء يصفو الشهداء، وتمتاز المادة الخام، هي كعملية الطرق والسحب التي يقوم بها الصائغ للذهب، كلما كان المعدن أكثر جودة كلما تجلى بالطرق في صورة أبهى وأشكال أجمل. وكلما كانت المادة الأولية الخام أكثر طيبة وجودة كلما كان الناتج أفضل.· مهارة الصانع
- ومن هنا فإنّ هذا يحتاج إلى مهارة في الصانع، ونحن ندعو الله أن لا يبتلينا بما لاطاقة لنا به، لا أن لا يبتلينا من الأساس، لأن هذا خلاف غرض الكون، بأن لا يخضع المادة لطرق أكثر من قدرتها، ولذا نجد أن الابتلاء بحسب الأمثل فالأمثل.
- الغرض الإلهي من الابتلاء هو العلم بالمؤمنين، أي التحقق في الواقع، " ليميميز الخبيث من الطيب"، تارة بمعنى التفكيك، في عملية الفصل، نحن لا نضيف طيبة للطيب، أما في الغربلة الإلهية فعملية التمحيص من خلال الوجود في الدنيا هو تحويل للمادة الخام إلى تجلٍ للإبداع الإلهي، وما بالإمكان أجمل مما كان.
- وهذا الإبداع والحكمة الإلهية، واللطف الإلهي بالإنسان في كل شأن من شؤونه ومفردة من مفردات حياته، روي عن الصادق (ع): " ما من قبض ولا بسط إلا ولله فيه مشيئة وقضاء وفتنة" فيه تحريك للإنسان من حالة الجمود والخمول.
· امتحان الرّخاء
في هذه الفترة الزمنية التي يعيش الناس الرخاء، فإنهم ابتلاء " الإرتخاء"، وهو أشدّ الابتلاءات وأقلها نجاحا، الابتلاء بالرخاء والنعيم وإطلاق الرسن، هذا نادرا أن ينجو منه الإنسان، لأنه يظّنّ أنه من رضا الله عليه، يجب أن ننتبه من حالة السهو واللهو والاسترسال وراء إقبال الدنيا.
وأشاد سماحته في ختام الخطبة باجتماع مجموعة من العلماء والمشايخ والسادة في الدمام في حالة استثنائية، راجيا من الله تعالى أن يجعل من هذا الاجتماع ما فيه الخير والصلاح والهداية لعموم الناس وخصوص العلماء العاملين لخدمة المجتمع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق