حديث التمر لا ينتهي، لكن القصد هنا أن الأوضاع تتغير، فتاريخياً لم يك هناك منافس لخلاص الأحساء، وأسمع هناك من يقول إن ليس له ولن يوجد منافس له من حيث المذاق والصفات الجمالية. قد يكون، ولكن الثابت أن المملكة زاخرة بالتمور، وأن جودة التمور وكثرتها في الأحساء لم تمنع جهوداً في مواقع أخرى من العناية بتمورها وتنميتها. لكن الجهد الذي أحدث الفرق هو التسويق والترويج، وهنا لابد من «رفع العقال» للرواد من تجار التمور في القصيم الذين بادروا في التعامل مع التمر بناء على أسس تجارية حديثة، فطوروا الطرق التقليدية وتخلوا عن بعضها، وعملوا فرادى وجماعات للارتقاء بالثمرة المباركة عبر جميع حلقات التزويد؛ من اختيار الفسيلة والعناية بها وبالتربة التي تحتضنها إلى رعاية النخلة وثمرتها إلى جمعها وفرزها وتخزينها وتسويقها. وقد أتيحت لي الفرصة لزيارة العديد من مزارع النخيل وسط المملكة، ووجدت أن هناك من أخذ العناية بالنخيل لآفاق أرحب مما كان سائداً، بل ان أحد أصحاب المزارع
المشهورة بجودة تمورها كان سباقاً في افتتاح محلات أنيقة لبيعها، تتعامل مع التمرة كقطع الشوكولا السويسرية الفاخرة، واستثمر لسنوات في تطوير وترسيخ اسم تجاري تلازم مع الجودة والتطوير المستمر؛ بل أخذ تمورنا لآفاق العالم عبر افتتاح مقاهٍ لاحتساء القهوة العربية وتذوق التمور الصِرفة أو حلويات مصنعة منها.
وستجد دائماً من لا يستطيع الخروج عن إطار تقليدي لعمل الأشياء بما في ذلك كيف يمارس الزراعة أو التجارة، في حين أن الرياديين يسعون دائماً لاستباق الآخرين بما يمكنهم من الحفاظ على تنافسية منتجاتهم وتميزها. وما دمنا في عالم التمور، فأروي أني كنت في زيارة لقريب في الأحساء، وكالعادة أخذنا الحديث للتمور، فقال: لا يوجد ما يقارب خلاص الأحساء طعماً أو منظراً، ومع حديثه القاطع لم يكن للنقاش محل، وبعدها بأيام قليلة زارني قريبي هذا، فتناولنا تمراً وقهوة، فأخذ يمتدح التمر، قائلاً: نعم، هذا الخلاص. فقلت له: هذا خلاص الخرج. لم يصدق إلى أن جئته بالوعاء، وأخبرته أن أحد الفضلاء أهداني هذا التمر نتاج مزرعته في الخرج.
شخصياً، فالتمرة المفضلة عندي عما سواها فهي «الشيشي»، ولذا لا أجد نفسي مضطراً للانحياز للخلاص تحديداً، لكن النقطة هنا أن ليس بوسع أحد أن يطمئن لوضعه في السوق، فالسوق عرض وطلب، ومن أكثر العوامل تأثيراً في الطلب هو تفاوت الأذواق وتبدلها مع مرور الوقت، فمثلاً من كان يتصور أن التمور ستفرد في فاترينات بعد أن مكثت دهوراً في ظلام «الجصيص» (جمع جصة، وهي مكان في المنزل لتخزين المؤنة من التمر). ومن هذا المنطلق فأمام التاجر أحد أمرين: إما أن يستبق ما سيطلبه الزبون أو يجاريه، أما الاستقرار والرتابة فليس خياراً، وهذا يعني أن طرق تسويق التمور والمتاجرة بها تتطلب جهداً ممنهجاً يحقق نتائج. وهناك من يعول على جهات عديدة أن تقوم بالدور الريادي، وبالتأكيد فهناك أشخاص ومؤسسات بذلت جهوداً متواصلة لتحافظ تمور الأحساء على مكانتها التاريخية، ولعل مدينة الملك عبدالله للتمور خير شاهد، وكذلك ما شهدته تمور الأحساء من ترويج واحتفاء في مهرجان التمور، ومؤخراً في «ويا التمر أحلى».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق