الأحد، 1 فبراير 2015

صناعة المستقبل الناصع - ٢

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيد الخلق محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين .
رب اشرح لي صدري ، ويسر لي أمري ، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي .
عباد الله ! أوصيكم ونفسي بتقوى الله . وإن من تقوى الله عز وجل أن يسعى الإنسانُ ؛ سعياً حثيثاً ، في أن يصنع لنفسه مستقبلاً ناصعاً في دنياه وفي آخرته .
ولن يتم ذلك إلا :
بأن نستهدي بالكتاب ؛ الذي أنزله الله عز وجل ، ووصفه بأنه { لَا رَيْبَ فِيهِ } [البقرة/ 2] ، ووصفه عز وجل بأنه { يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء/ 9] .
وبالرجوع إلى مَن يعلم تفسير القرآن وتأويله ؛ وهم {... الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم ... } [آل عمران/ 7]، والذين تكفل الله عز وجل بتطهيرهم ، وببقائهم مع القرآن ؛ لا يفترقون عنه ؛ بشهادة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
ولذلك ، فإن الاهتمام بشعائر أهل البيت ( صلوات الله وسلامه عليهم ) ليس اهتماماً بمسألة تاريخية مجردةٍ فارغةٍ من المضمون ، وإنما هو - في حقيقته ، وفي جوهره - حرصٌ ممن يحيي هذه الشعائر ؛ بطريقتها الشرعية طبعاً ، على أن يبني لنفسه هذا المستقبل ، ويصنع هذا المستقبل ، بعد أن يتوفر ويوفّر الشروطَ اللازمة .
أولم يرِد في الحديث الشريف أن شهادة لا إله إلا الله حصني ، أو لا إله الله حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي كما روي عن الإمام الرضا -عليه أفضل الصلوات والسلام- ثم ألحق ذلك بقوله بشرطها وشروطها وأنا من شروطها ووصف نفسه -صلوات الله وسلامه عليه- بأنه من شروطها(١).
لأن الله عز وجل ؛ الذي وصف القرآن بما وصفه به ، جاء بيان ذلك وتفصيله من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن عترته الطاهرة لن يفترقا مع القرآن الكريم ، سيبقيان ويلتقيانه على الحوض(٢).
وبالتالي ، فإنّ مادة الصلاح متوفرة بين أيدينا .
ما الذي يجب علينا أن نفعله ؟
السعي والعمل { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } [التوبة/ 105] . ولن يحصل أحد منا على شيء من هذا ، ولن يجني ثمرة ذلك إلا بالسعي ؛ فإن الله عز وجل يقول { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } [النجم/ 39] .
هناك محوران لابد أن نتعرض لهما في هذه المسألة ، وهي طويلة الذيل ، ومتشعبة الأطراف ، لا نستطيع أن نستوفيها ونستوعب الحديث عنها في مثل هذه الفترة الموجزة والمحدودة ، لكن هناك محوران ؛ قدَّمنا لهما بمقدمةٍ في حديثٍ سابقٍ . هذان المحوران :
أولهما : يتعلق بمسألة التشخيص . تشخيص المشكلة ، تشخيص الأزمة ، تشخيص الآفة ، فلا تستطيع أن تنتقل إلى المحور الثاني الذي يتولى عملية العلاج إلا أن يسبق ذلك التشخيصُ .
ما هي طبيعة هذه المشكلة ؟
ما هي حدود هذه المشكلة ؟
أسباب هذه المشكلة ؟
النتائج التي تترتب على هذه المشكلة ؟
لنسعى بعد ذلك في اختيار الأدوات المناسبة والتوقيت المناسب ؛ حتى لا نكون مثل أولئك الذين جاء وصفهم في القرآن الكريم { ... يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [الكهف/ 104] .
كيف كان أولئك يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، وهم لا يحسنون صنعاً ؟!
وهل أن أولئك كانوا في فترة من التاريخ ، وليسوا موجودين في فترة أخرى ؟!
الجواب : كلا ، منذ فجر التاريخ إلى آخره ستجد فئات من الناس ، وفئاماً من الناس ، يحسبون أنهم يحسنون صنعاً .
وأحد علامات ذلك أن يختلط عليهم العدو بالصديق .
حدث قبل أيام عدوان صهيوني على جماعة من المسلمين من هذه الأمة ؛ في سياق صراعٍ ابتدأ من احتلال فلسطين ، هذا الاحتلال الآثم ، والذي يقرّ المسلمون جميعاً على أنها أرض لأهلها ؛ أي لأهل فلسطين ، وأن الصهاينة غاصبون ، لكن هناك مَن يفرح - للأسف الشديد - نتيجة اختلاط المفاهيم ، ونتيجة الانحرافات الفكرية ؛ التي لها أسباب كثيرة ، ونفسيات معينة ، ترى في هؤلاء الصهاينة كما لو كانوا حلفاء ! ولا يقول بأنهم حلفاء ! ، وإن تجرأ بعض الحمقى ووصف نفسه ، أو تمنى أن يكون مع هذا الفريق على فريقٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله !
النتيجة المنطقية لمثل هذا الانحراف الفكري هو أن يتولد لنا جماعةٌ ؛ يوم أمس في أفغانستان فجر أحدهم نفسه باسم الجهاد في سبيل الله في موكب تشييع ، ويذهب ضحية هذا الانفجار والتفجير خمسة وعشرون نفساً يشيعون ميتاً من موتى المسلمين يهللون الله سبحانه وتعالى ويكبرونه .
ونتيجة هذا التشويه يحدث يوم أمس تفجيرات في المنطقة سيناء في مصر المحروسة ويستشهد أربعون جندياً مصرياً من المسلمين ، باسم ماذا ؟!
باسم الانتصار لشريعة الإسلام ! ويصاحبون ذلك هذا الفعل الآثم بالتكبير ، كما حصل في هذه البلاد الطيبة قبل فترة في منطقة شرورة ، وقبل فترة وجيزة في شمال هذه البلاد !
بأي عنوان يقومون بهذه الأعمال الإجرامية والإرهابية ؟!
باسم الانتصار لشرع الله ! باسم الانتصار لهذا الإسلام !
أي إسلام هذا الذي ينشدونه ؟!
هذا الإسلام الذي لم يتلقوه من كتاب لا ريب فيه ، إسلام صنعه لهم الشيطان ، والشياطين في صورة أناس ، ينتقون آية هنا وآية هنا ، ثم يغفلون بقية القرآن الكريم ، والله عز وجل حذر من هذه الفئة ، يقول عن هؤلاء { ... فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ... } [آل عمران/ 7] .
الله سبحانه وتعالى حينما أنزل إلينا هذا القرآن الكريم أراد أن يضعنا على الجادة ، على الصراط المستقيم ، والقرآن { يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء/ 9] .
دون هذا سنُفاجأ بأن أغلب مناطق العالم فيها شيء من الاستقرار ، لكن البقعة الوحيدة التي هي ملتهبة - للأسف الشديد ، وباسم الإسلام تلتهب - هي فقط هذه المنطقة ، التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يأخذ بأيدي الصالحين والمصلِحين جميعاً ، ومن دون استثناء ، أن يأخذ بأيديهم إلى ما يصب في مصلحة هؤلاء المواطنين ، هؤلاء الشعوب المسلمة ، هذه المنطقة المنكوبة التي تكالب عليها أعداء الخارج وحمقى الداخل ، نسأل الله لنا ولكم السلامة .
في المحور الأول إذا بعدٌ وصفيٌّ ، وتشخيص لهذه المشكلة ، وهذا العلاج الذي لابد منه ، ثم لننتقل الحديث بعد ذلك عن العلاج .
يقول عز وجل في سورة النور { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } [النور/ 34] .
هذه الآية الحديث فيها طويل ، ولست في مقام الإسهاب ، لكن أريد أن أقف عند ثلاثة أشياء ؛ أشارت إليها الآية المكرمة أو الشريفة ، وكلُّ واحدٍ من هذه الأمور يمثل عنصراً من عناصر التشخيص الضروري ، أو الأدوات التي لابد أن نستعين بها في تشخيص الواقع السيء ؛ ليتيسر لنا أن نصنع مستقبلاً ناصعاً ومشرقاً .

1 - امتلاك الحقيقة وما يدل عليها

العنصر الأول : هي أن يسعى الإنسان إلى أن يمتلك الحقيقة ، وأن يسير على وفق الحق ، ولأن الناس يختلفون ، وقد تعرضنا إلى ذلك في خطب سابقة ، الناس يختلفون لكن كيف نهتدي في ظل الاختلاف ، وخصوصاً إذا اشتدت ؟
الخلاف بين كل الناس يقع ، الحل الوحيد هو أن ننطلق من المسلمات والمتفق عليه . في عالم العقل هناك أمور بديهية عقلية ؛ يتسالم عليها الناس ، مثل أن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان ، أن الضدين لا يجتمعان . فالضدين لا يمكن أن يتصف الجسم الواحد ، من زاوية واحدة ، بالسواد والبياض في الوقت نفسه . يمكن أن نصبغه بالسواد في النهار ، ونصبغه بالبياض في الليل ، يمكن أن نصبغه بالسواد من هذه الجهة ، وبالبياض من الجهة الأخرى ، لكن في الجهة الواحدة ، في التوقيت الواحد ، نريد أن نصبغ هذه الزاوية بالبياض والسواد معاً ، هذان ضدان لا يجتمعان .
وأما المتناقضان فأن نصف الشيءَ بالوجود والعدم في الوقت نفسه ، فنقول هذا موجود وهذا غير موجود ، مع مراعاة الشروط التي يذكرها علماء المنطق ، يسمونها الشروط الثمانية لسنا في صدد الحديث عنها ؛ وهي من الأمور الواضحة جداًّ .
شبيه بالمثال الذي سبق أن ذكرناه ، لا يمكن أن نصف هذا الجدار في الساعة الواحدة والثانية الواحدة بعد الساعة الواحدة أنه موجود ، وفي الثانية نفسها أنه غير موجود ، لا يمكن . يمكن أن يكون قبل الساعة الواحدة موجود ، وفي الساعة الواحدة والثانية الواحدة غير موجود ، أو العكس ، لكن في التوقيت نفسه ، في الزاوية نفسها ، من كل الشرائط ، هو موجود وغير موجود ! هذا تناقض يدركه أقل الناس تعقلاً وفهماً . هذا في الجانب العقلي .
كذلك في الأمور الشرعية ، يتفق المسلمون جميعاً على أن كتاب الله سبحانه وتعالى ؛ الموجود بين المسلمين اليوم ، { لَا رَيْبَ فِيهِ } [البقرة/ 2] ،  وأنه { يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء/ 9] ، هذا أمر متفق عليه ، لكن لأن هناك فئةً من الناس لا تريد أن تجعل هذا أمراً متفقاً عليه ، أيضاً تثير الغبار ! هناك مَن يعتقد بالتحريف ومن لا يعتقد بالتحريف ! حتى لو أقسمتَ له بأغلظ الأيمان ، نحن نقول أن هذا المصحف المتداول بين يدي المسلمين ، هذا هو ما عناه الله عز وجل بقوله { لَا رَيْبَ فِيهِ } [البقرة/ 2] ، وهذا هو الذي وصفه الله عز وجل بأنه { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ... } [فصلت/ 42] ، و أن هذا الكتاب ؛ الموجود بين الدفتين ، والمعروف بين المسلمين ، لم يزد حرفاً ولم ينقص حرفاً ، وأنه الذي { يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء/ 9] ، مع ذلك يشاغب !
مثل هذا التفكير هو الذي يقول أن الصهاينة إذا اختلفوا مع بعض المسلمين ، يقول هذا خصام وعداء بين عدوين لا شأن لنا به !
نحن لا نتحدث مع هذا ، نتحدث مع الأسوياء من الناس ، مع الأتقياء من الناس ، مع العقلاء من الناس ؛ وهم كثيرون جداًّ في هذه الأمة ، وإن ارتفع صوت بعض السفهاء ، وانخفض صوتُ كثيرٍ من العقلاء لهذا السبب أو لذاك السبب .
نتحدث مع هذا الفريق من الناس الذي يعنينا أن تُمد اليدُ إليه ، ونتمنى أن تُمدّ اليدُ منه ؛ ليتلاقى المسلمون على ما يجمعهم ، وما أكثر ما يجمعهم .
منها : هذا الكتاب الكريم .هذا بند .
فإذا أردنا أن نتوفر على الحقيقة والحق نرجع إلى هذا القرآن الكريم ، ومنه سننطلق إلى آفاق أخرى .
أشارت الآية الكريمة إلى هذا العنصر بقول الله عز وجل { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ ... } [النور/ 34] ، آيات جمع آية ، والآية هي : العلامة ؛ أي : الدليل .
الناس بفطرتهم ماذا يرجون ؟
والله سبحانه وتعالى بماذا تعامل معهم ؟
تعامل مع على أن هؤلاء الناس ينشدون بفطرتهم الكمال الذي لا يوجد إلا في الحق وينبذون الباطل ، آيات القرآن الكريم هي علامات هذا الحق ، هي الدلائل التي تشير إلينا إلى هذه الحقيقة التي نرجوها . هذا هو العنصر الأول .

2 - التاريخ البشري في سلبياته وإيجابياته

العنصر الثاني : الله سبحانه وتعالى أشار في آيات ومواضع كثيرة من القرآن الكريم أن الناس أفراداً وجماعات ليسوا دائماً يطلبون الحق والحقيقة ، فيكفي أن تنزل إليهم آيات بينات ومبينات ، وقد جاء الوصف للآيات في السورة المباركة نفسها بالآيات المبيِّنات والبيِّنات ، والفرق بينهما في محله ، ليس الناسُ جميعاً ينشدون الحق وما يدل على الحق ؛ لأن النفس قد تمرض ، مثل ما أن القلب الخارجي والعضوي هذا يمرض ، قلبُ الإنسان الداخلي يمرض ؛ ولذلك قال الله عز وجل { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الشعراء/ 88، 89] ، هناك مَن يرى الحق وينكره { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ... } [النمل/ 14] ، في مستوى نفسه يقر بأن هذا هو الحق لكن يصعب عليه أن يقر به ! لأن الإقرار بهذا الحق يفرض عليه أن يتنازل عن كثيرٍ من مصالحه العاجلة والآجلة ، ولأن نفسَه مريضةٌ يرفض أن يتخلى عن هذه فيقلب الحقَّ باطلاً والباطلَ حقاً ، وهكذا .
فجاء القرآن لينظم في العنصر الثاني هو أن الله عز وجل ساق لنا بعضَ تاريخ البشر فيما مضى ؛ لينبهنا إلى أن واقعكم - أيها المسلمون - لن يكون بعيداً عن حال أولئك الذين تقدموا ، فمثل ما أن أولئك وقعوا في الانحراف سيقع في أوساطكم الانحرافُ ، فجاء عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في ما يروى عنه من قوله " لتتبعن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة ولو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " يعني اقرأوا ما جاء في وصف بني إسرائيل ، وتمعنوا في ذلك ، فما فعله أولئك ستقعون فيه أيها المسلمون ؛ إلا من اعتصم بحبل الله عز وجل ودخل في السلم كافة .
فإذن ، هناك تاريخٌ بشريٌ ؛ ولذلك قالت الآية { وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ } [النور/ 34] ، جئنا لكم بنماذج واضحة ، كيف اهتدى من اهتدى منهم ، وكيف انقلب على عقبه من انقلب منهم ؟ { وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ } [آل عمران/ 144] .
لكن انتبهوا - أيها الناس - الشاكرون عبر التاريخ دائماً قلة { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } [سبأ/ 13] ، فليس من حق أحد أن يقول أنا الناسُ معي ! نحن الأكثرية وأنتم الأقلية ! يريد أن يجعل من كثرته الكاثرة دليلاً على حقانيته ! ومن قلة الفريق الذي خالفه دليلاً على أنه من أهل الباطل !
هذا خلاف ما جاء في القرآن الكريم ، ليست الكثرةُ دليلاً كما أن القلةَ ليست دليلاً على البطلان .
لا ، قد تكون المسألة متعاكسة .

العنصر 3 / الاستجابة - التفاعل بين الخارج والداخل

العنصر الثالث : هو أن الله سبحانه وتعالى أشار إلى أن هذا الذي جاء في القرآن الكريم ، الموصوف بما وُصف به من أنه { لَا رَيْبَ فِيهِ } [البقرة/ 2] ، و { يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء/ 9] ، تعاملُ الناسِ معه لن يكون متساويَ النسبة . لا ، هناك مَن سيؤمن به ، وهناك من سيكفر به .
مراتب الإيمان متفاوتة ، وكذلك مراتب الكفر بالقرآن الكريم متفاوتة . هناك مَن يؤمن بالقرآن عقلياًّ لكن لا يسلم به قلبياًّ ، هناك مَن يؤمن به عقله وقلبه ولكن لا يسلم به على مستوى جوارحه وسلوكه . ولذلك ، القرآن الكريم يقول { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ... } [البقرة/ 44] ، وهكذا .
فالآية تريد أن تقول أن الاستجابة لِما جاء في القرآن الكريم لن يُوفق له إلا فئةٌ من الناس توفرت على صفة من أجلِّ ما ينبغي أن يتصفوا به ؛ وهي ( التقوى ) ، فقال عز وجل { ... وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } [النور/ 34] ، والقرآن الكريم الذي هو كتاب { لَا رَيْبَ فِيهِ } [البقرة/ 2] ، و { يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء/ 9] .
هو هداية لمن ؟
لكل الناس ؟!
في ذاته هو كذلك ، لكن على مستوى تفاعل الناس معه لا ، { ... هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } [البقرة/ 2] .
والمتقون ليسوا هم خصوص مَن يصلون ؛ فإن كثيراً ممن يصلون - للأسف الشديد - منحرفون .
هؤلاء الدواعش والإرهابيين ، النسخة الحالية والنسخ السابقة والنسخ التي ستأتي ؛ لأنه دائماً هناك دواعش بصفات وأسماء ومسميات مختلفة ، يصلون ويصومون ، وقد لا يتمكن عامةُ الناس من أن يساووا أنفسهم بهم ، لكن - للأسف الشديد - يمرقون كما تمرق السهم من الرمية ، قشور ، لا يحافظون على الإسلام إلا في قشوره .
وهذه آفةٌ أُلفت النظر - إخواني وأخواتي - ليست خاصةً بهذا التنظيم ، وتلك الجماعة التاريخية ، والجماعة التي ستأتي ، يمكن أن يبتلى بها كثيرٌ من الناس . يمكن أن يكون إنسانٌ داعشياًّ وإرهابياًّ ليس بالضرورة على مستوى تعامله مع الدولة ، لا قد يكون داعشياًّ مع زوجته ، داعشيةً مع زوجها ، داعشياًّ مع ولده ، لكنه مع عامة الناس طيب ومرح ، وهكذا .
فقد تكون عنده هذه الصفة في حالات السلم ، في حالات الحرب ، في حالات التصدي للمسؤولية ، وهكذا .
الله سبحانه وتعالى يقول { ... وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } [النور/ 34] ، ومن ثَم يدرك سر ما قاله الله عز وجل { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ... } [الأنفال/ 24] دعوة الله عز وجل الناسَ هي دعوة حقيقية للحياة الحقيقية ، لكن من يستفيد منها ؟
طلاب الحياة ، صناع المستقبل الناصع الذين يريدون من الله ؛ لأنهم يدركون أن الخير كله من عند الله عز وجل ، وأن صلتهم لا يجوز أن تنقطع بالله ؛ لا في حالات السلم ، ولا في حالات الحرب ، لا في حالات الفقر ، ولا في حالات الغنى ، لا في حالات التمكن ، ولا في حالات الاستضعاف ، في جميع الحالات ينبغي للإنسان أن يكون ربانياًّ يريد وجه الله عز وجل في كل ما يفعل { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً } [الإنسان/ 9] .
نسأل الله سبحانه وتعالى أن نكون وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه .
اللهم صل على محمد وآل محمد .
اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن ؛ صلواتك عليه وعلى آبائه ، في هذه الساعة ، وفي كل ساعة ، ولياًّ ، وحافظاً ، وقائداً ، وناصراً ، ودليلاً ، وعيناً ؛ حتى تسكنه أرضك طوعاً ، وتمتعه فيها طويلاً .
اللهم انصر الإسلام والمسلمين ، و اخذل الكفار والمنافقين .
اللهم اشف مرضانا ، وارحم موتانا ، وأغن فقراءنا ، وأصلح ما فسد من أمر ديننا ودنيانا .
وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين .






---------------------------

(١) عوالي اللئالئ لابن أبي جمهور ، ج 4 ، ص 94 .
(٢) مسند أحمد ، باب ما روي عن أبي سعيد الخدري .


ليست هناك تعليقات: