لا زلت أسترجع ذكريات دورة البرمجة اللغوية العصبية (NLP) الأولى والوحيدة التي حضرتها قبل حوالي خمسة عشر عام في أحد فنادق الدمام. أجواء فخمة وخدمات فندقية راقية لم يتعود عليها من تخرج توّاً من الثانوية مثلي. البعض تملّكه الانبهار بهذا اللون الجديد من العلوم، والبعض الآخر سيطر عليه التحفظ على كثير مما طُرح. إلا أن الجميع استغرب حين ذكر لنا المدرب في النهاية أن هذه الدورة القصيرة التي دفعنا من أجلها الآلاف ما كانت إلا مقدمة لدورات متخصصة أكثر نصير بعدها مدربون معتمدون في علوم يصعب علينا نطق أسمائها! تحمس البعض منا واستمر في حضور هذه الدورات، ولكن أغلبنا اكتفوا بجرعة الحماس تلك دون أن ندري إن كانت الدورة استحقت ما بذلناه من وقت ومال.
رافقَت تلك الفترة ثورة في دورات وكتب تنمية الذات بشكل لم يسبق له مثيل. بعضها يعدك بتعلم القراءة السريعة، وأخرى بعلاقات ناجحة، وأخرى بتعلم مهارة في ظرف أسبوع. دورات هنا تساعدك على تنظيم الحياة، وكتب هناك تقسم أن عندها وصفة السعادة السحرية، والقائمة تطول. واشتد التنافس بين مدربين استوردوا علوماً ومواداً تدريبية من الخارج وصاروا معتمَدين فيها في ظرف أسابيع، وبين كتبٍ ازدحمت على رفوف المكتبات تحمل أكثر العناوين جذباً. أما المتلقين، فانقسموا – كما فعلنا في دورتنا – بين مقتنع متحمس ومشكك أو رافض. ويبقى السؤال: هل كتب ودورات تنمية الذات هي ترف فكري وسلعة بولغ في تسويقها؟ أم أنها ضرورة في تحسين حياة الإنسان والأخذ بيده نحو مستقبل أفضل؟
من خلال تجربتي المتواضعة المتمثلة في حضور الكثير من الدورات وقراءة عدة كتب في هذا المجال، بالإضافة إلى ملاحظتي لآراء المتحمسين والمشككين، خلصت إلى بعض النتائج التي قد تفيد القارئ الكريم.
من استوى يوماه...
بدايةً، يجب ألا يختلف اثنان أن عملية تنمية الذات – بغض النظر عن الوسيلة – هي مطلب ضروري في حياة الإنسان. يقول الحديث الشريف: من استوى يوماه فهو مغبون. لذا يجب ألا نخلط بين تنمية الذات كعملية ضرورية (هدف) وبين تنمية الذات عبر الدورات والكتب (إحدى الوسائل). كما يجب ألا نعتبر هذه الدورات والكتب كبديل لمدرسة تنمية الذات الأساسية في ثقافتنا وهي ديننا الحنيف. كثيراً ما أسمع ممن تأخذهم الحميّة أن هذه الكتب والدورات ما هي إلا ترف وأن علومنا الدينية تكفي، والحال أن لا تعارض بين الأمرين. فالقرآن الكريم والسنة الشريفة وتعاليم الشرع هي بلا شك العمود الأساسي لبناء الإنسان المسلم. وهذه الدورات والكتب (المفيد منها على الأقل) ما هي إلا امتداد في رحلة استكشاف الإنسان للحقيقة وبحثه عن الحكمة ويجب ألا يتعارضان مع ما جاء به الشارع المقدس.
مدرب "معتمد"
مجال التدريب على تنمية الذات مجال واسع، فيه الغث وفيه السمين. إلا أن هذا المجال بالذات يكثر فيه الغث الهزيل مقارنة بغيره من المجالات المعرفية. فمثلاً الكثير من المدربين في هذه المجالات يحصلون على شهادات اعتماد في غضون أسابيع قليلة يملؤون فيها سيرتهم الذاتية ويظهرون أنفسهم كأصحاب خبرة واسعة في تلك المجالات التي لم يتخصصوا فيها حقّاً. ففي حين يكدح الطالب الجامعي لعدة سنوات حتى يحصل على درجة الدكتوراة ويسمّى بالمتخصص، نجد بعض المدربين يجمع في سنة واحدة قائمةً طويلةً من شهادات الاعتماد من مؤسسات غربية ذات شعارات براقة وعناوين رنّانة. ولو بحثت لوجدت أن متطلبات الاعتماد هذه هي متطلبات بسيطة وفي متناول الكثيرين دون جهد يستدعي أن نطلق على هذا الشخص لقب (متخصص) بالضرورة.
لست هنا ضد عملية اعتماد المدربين بشكل مطلق، فأنت لا تحتاج إلى أربع سنوات من الدراسة الجامعية لتدرب الناس على إدارة الوقت مثلاً. ولكن ما لا يصح هو أن يُبرز المدرب نفسه كصاحب باع طويل في هذا المجال وأن يصدق المتدربون أن هذا الشخص متخصص ضليع وأن ما يقوله هو كبد الحقيقة. على المدرب أن يوضح سعة أو محدودية خبرته بكل تواضع وصدق، وعلى المتدرب ألا ينبهر بسيرة المدرب الذاتية دون فحص دقيق. سمعت أحد الأشخاص مرة يقول أنه يعطي أكثر من مئة دورة تدريبية وعرض تقديمي في تنمية الذات! ربما يكون صادقا. إلا أن ما كان يقوم به دل على أنه أحوج الناس إلى دروسه، بدءاً بأسلوبه الممل في الإلقاء، ونهاية بعلاقاته المضطربة مع زملائه!
ماذا عن الكتب؟
من ناحية أخرى، فكتب التنمية البشرية أيضاً فيها الجيد والغير جيد كأي مجال معرفي آخر. الكثير منها ضعيف أو فيه تكرارٌ لما هو في كتب أخرى. إلا أن الكثير منها أيضاً – وبأمانة – هو غاية في الروعة وقوة الأثر. لقد قرأت الكثير من هذه الكتب ووجدت فيها ما ساعدني فعلاً في تغيير حياتي نحو الأفضل بشكل ملحوظ. ولعل أفضل طريقة لانتقاء الكتب الجيدة قبل التورط بشرائها هي مراجعة تقييم القراء عبر مواقع الكتب مثل موقع (أمازون) الشهير.
ولكن تقييم القراء قد لا يكفي، فمعظم كتب التنمية البشرية عندنا هي كتب مترجمة، والترجمة تفقد الكتاب شيئاً من جماله. ومهما كانت الترجمة قوية فهي قد لا تنجح في نقل قصص الكتاب وتصوير الثقافة التي كتب فيها بنفس الوضوح الأصلي. سمعت الكثير من الأصدقاء يشتكي من غموض أو رتابة كتب مترجمة رغم أنها كتب ناجحة في بلد الطباعة الأصلي.
مواضيع غريبة
مع انتشار دورات وكتب تنمية الذات، اجتهد المدربون والكتّاب في البحث عن مواضيع جديدة والتبشير بها كعصيّ سحرية نحو النجاح والسعادة. إلا أن المتعمق في تنمية الذات يعرف أن هناك جوانب رئيسية يجدر بأي مهتم أن يبدأ بها إذا أحب أن ينمي ذاته. من هذه العناوين: إدارة الوقت، الإلتزام، القراءة، تخطيط الحياة، التعلم المستمر، الثقة، وضع الأهداف، التفوق العلمي، وغيرها. هذه الجوانب هي لا شك أهم من عناوين أخرى ثانوية – فضلاً عن كونها جدلية – كتلك الدورات والكتب التي تتعمق في الطاقة والماورائيات خصوصاً إذا كانت من ثقافات أخرى.
ولكن هل تفيد فعلاً؟
قد يحتج البعض أنه بعد حضور بعض الدورات أو قراءة الكتب لم يجد نتيجة تذكر رغم أن المادة العلمية كانت مفيدة وأن المدرب أو الكاتب كان ممتازاً. بعد حوار قصير يتضح أن سبب عدم الاستفادة هو عدم متابعة الشخص نفسه بتطبيق توصيات الدورة أو الكتاب. صدقني، لا يوجد دورة أو كتاب لهما أثر العصا السحرية. تغيير الإنسان هو مسؤوليته الشخصية. ومهما كان الكتاب أو المعلم كاملاً فلن يكون لهما أثر دون تفاعل عملي من المتلقي نفسه. ألا تجد المجرمين يقرؤون القرآن ثم لا يتوقفون عن جرائمهم؟
همسة أخيرة
سواء اخترت الكتب والدورات أو أي وسيلة أخرى، فقد تتفق معي أن تنمية الذات عملية ضرورية في حياة كل إنسان. وللأسف فإن معظم الناس يعيشون حياتهم دون الالتفات لأهميتها. بعد حضور الكثير من الدورات وقراءة العديد من الكتب في هذا المجال وجدت أن فيها فائدة حقيقة لو تحققت شروط. فلو بحث أحدنا عن المدرب أو الكتاب الممتازين واختار الموضوع المهم الذي يمس احتياجه بشكل مباشر، ثم أتبع ذلك بتطبيق عملي لما تعلمه، فإن هذه الدورات والكتب ستكون – بإذن الله – وسيلة ناجحة في تنمية الذات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق