الخميس، 18 ديسمبر 2014

العقيلة (ع) أذان من الله ورسوله

 أربعون يوماً مرّت على أحداث كربلاء كانت انقلابا على كل شيء وعلى جميع الأصعدة . أربعون يوما كانت كفيلة بتطهير عالم الخلقة مما علق به من الرجس والدنس وألوان والوحشية والسبعية .


كان العالم الإسلامي يحتاج إلى أربعين يوما ليبرأ من مرضه العضال ؛ فقد النبي , وغصب الوصي , والسقيفة والشورى والجمل وصفين وشهادة الإمام الحسن (ع) ... كل هذه الأحداث نخرت في بدن الأمة الإسلامية وسبّبت أمراضا في أعماق البدن الإسلامي : في فكره وعقائده وأخلاقه وإنسانيته , وأسقاما في كل مفاصله حتى أصبح عاجزاً عن القيام بأهم وأوضح الواجبات , لذا كان لا بدّ من فصل الخطاب ليشفى الدين ويتعافى ويبرأ من علته .


ولم يكن طبيبه إلا وريثة النبي وحفيدته وغصنه وفرعه , التي تحمل روحه , وتعي حقيقة رسالته , ومن تنطوي جنباتها على إحساسه وشهامته وعزته ورحمته صلوات الله عليه وآله . وكما كان هو صلوات الله عليه طبيبا دوّرا بطبّه (1) كانت عقيلة الطالبين تدور من بلد إلى بلد (قد أحكمت المراهم وأحمت المواسم) , ما حطت أقدامها على أرض إلا وأعادت لأهلها الصحة والسلامة .


ولعمل زينب نظير من تاريخ بيتها العلوي الرفيع الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً , فقد كان لأبيها علي عليه السلام براعة الاستهلال حينما اختاره الله سبحانه ليبلغ سورة براءة إلى مشركي مكة ، وليطهر بيته من أوحال الشرك والكفر والمكر , وليتصدى لصلاتهم عند البيت التي ما كانت إلا مكاء وتصدية , وكان لا بدّ من مواجهة الكافرين في عقر دورهم وديارهم ؛ فلم تعد تنفع العهود والمواثيق والأيمان فيهم ﴿ .. فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ۙ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ﴾ [ التوبة: 12] لأن الإنسان الذي ليس عنده أَيمان أي لا يحفظ العهود والمواثيق لا يمكن التعايش معه بحال . وهذا لا يصبح كافرا فحسب بل من أئمة الكفر , وقد أمر القرآن بقتالهم فهم ﴿ لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً .. ﴾ [ التوبة : 10] ومن الذي يمكنه أن يقوم بفعل البراءة غير علي عليه السلام ؟!


يحدثنا التاريخ أنه حينما نزلت سورة براءة معلنة سقوط كل ميثاق بين المسلمين وبين قريش، التي لا تحترم العهود ، والتي حولت بيت الله الذي أُسّس للتوحيد إلى صرح للشرك والكفر , أرسل النبي بدايةً الخليفة الأول ، وأركبه ناقته العضباء ، في أهم موسم وهو موسم الحج ليتلو عليهم هذه الآية ﴿ وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ..﴾ [ التوبة : 3 ] ليعلن براءة الله ورسوله من المشركين . لكن الوحي ينزل على رسول الله ليخبره جبرائيل ( يا محمد، لا يبلغ عنك إلا أنت أو رجل منك) (2) فأعطاها عليّا (ع) .



البراءة إبراء العلة



كان يجب أن لا يبلّغ بسورة براءة إلا النبي أو أحد منه ، لأن البراءة ليست صرف إعلام أو قول ورسالة لفظية , البراءة من البرء أي قطع علة المرض والانتهاء منه . فالبرء لغة هو التفصّي (3) مما يكره مجاورته (4) وقد كانت العرب تحتجم إذا مرضت وتتفصّى مما علق ببدنها من علل , ولا يعبّر بالبرء إلا حين الخلاص من مرض صعب قد استحكم في البدن مده طويلة .


ثم إن البرء لا يتحقق إلا بالقطع . يقال في الأصول : اشتغال الذمة لا يرتفع إلا بأداء التكليف على نحو القطع , فإذا كانت ذمة الإنسان مشغولة بدين أو صلاة أو أي واجب فهي تبقى مشغولة حتى يقطع بأداء الفعل . والبراءة هنا تضمنت المفهومين : الشفاء من مرض طويل , والخروج بالانقطاع عنه تماما.


لقد أجرم مشركو مكة بتحويل البيت الذي بناه إبراهيم الخليل خالصا لله إلى مركز للشرك وبيت للأصنام وإرصاد لحرب الله ورسوله . فكان علي عليه السلام أذان من الله ورسوله لتحقيق البراءة بشرطيها . فلا يعود بيت الله سليما إلا بأمرين :


1- أن تخرج منه أسباب مرضه: فيجب أن يكون هناك إنسان يستطيع ولو كان وحيدا فريدا أن يحطم هبل بكل قوة , هذا الإنسان هو علي الذي حمل ( براءة ) وحيدا ليعيد إلى بيت الله صحته .


2- محو كل آثار الشرك: فكل الخطايا التي وقعت في بيت الله أدت الى اشتغال ذمة الإنسانية ومرض روحها , وليس سوى عليّ (ع) يمكن أن يبرئ ذمة الانسانية ويرفع حالة اشتغال ذمتها بالخطايا والمعاصي والمواجهة لرسول الله صلى الله عليه وآله , وأن يزيل أئمة الكفر الذين لا أَيمان لهم فتبرأ بذلك ذمة الأمة السلامية .


ولأداء هذا الدور لم يكن علي يحمل رسالة سرية كالسفراء والقادة في عملية سياسية ومناورة بين طرفين ؛ بل كان لا بد أن يؤذّن بالبراءة , لأن الكون كان يضج بتلك الذنوب . ومعنى الأذان أن يوصل هذه المقاطعة وهذا القرار لكل الآذان, لا فرق في ذلك بين زعماء القوم أو صعاليكهم .


هناك فرق بين النجوى والنداء والأذان : النجوى خفيّة كما يعمل السياسيون الذين يجيدون الدبلوماسية, والنداء أوضح منه لكن يفهمه بعض الناس دون غيرهم , وأما الأذان فيجب أن يملأ فضاء كل أذن ، وهو واضح صريح بيّن ، لذا تجد المؤذن يضع يده على أذنه لأن صوته يملأ فضاء أذنه ويزيد عليه.


دخل علي أمير المؤمنين مكة وقرأ براءة بصوت عال وسبابته في أذنه , كان هو الجدير برفع أسباب العلل والأمراض وإحداث الفصل والقطع الواقعي وهدّ بقية أبنية الشرك . وحوّل مكة التي كانت مركزا للشرك إلى مركز للتوحيد والعفو والغفران .


وإذا أردنا أن نجد شبيها لعلي في هذا فلن تكون سوى زينب عليهما السلام . ولا يمكن حصر أوجه الشبه بين زينب وعلي , لأن الوظيفة واحدة والفاعل هو نفس الفاعل بنفس روحه وقلبه ولبّه وفكره ومخططه.


زينب كانت أذان من الله ورسوله لهذه الأمة ، واستطاعت أن تبرئ بدن الأمة وعقلها وفكرها مما علق فيها من مرض عضال ألمّ به من يوم السقيفة إلى يوم العاشر . وبدأتْ زينب ابنة علي عليهما السلام رحلتها على نفس المنوال ، مقتفية أثر أبيها بكل عزم وجزم واقتدار .



خطبه السيدة زينب (ع) ترجمة سورة براءة



كل ما قالته زينب (ع) من لحظات شهادة الإمام الحسين (ع) حتى عودتها إلى المدينة ليس إلا ترجمة لسورة براءة . فقد بدأت زينب خطبتها بقولها ( الحمد لله والصلاة على أبي محمّد وآله الطيبين الأخيار ) فلم تبدأ بما هو مألوف ومعروف في آداب الخطبة في الثقافة الإسلامية حيث البسملة والاستعاذة ثم حمد الله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله , هذا بالضبط كسورة براءة التي خلت من البسملة . ثم هي لم تصل على ( رسول الله ) لتجعل المستمعين مشمولين معها بكونه مرسولا لهم بل قالت ( والصلاة على أبي ) الذي ورثتُ عنه هذا المسلك . ثم تقول ( يا أهل الكوفة ، يا أهل الختر والغدر والمكر ) وهذا ترجمة لنص الآية ( فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ۙ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ ) . ثم تقول ( ألا فلا رقأت العبرة ولا هدأت الزفرة ) فضلا عما تحمله العبارة من تعنيف , فإن لها معنى دقيقا ، فهي عليها السلام في موقع دلالتهم على طريق الخلاص من هذه الأمراض والخطايا والذنوب ، التي على رأسها ترك نصرة الحسين عليه السلام , فتقول لهم أن الذي يريد أن يعالج ذنوبه فيجب أن لا ترقأ دمعته .


ثم تقول ( إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً ، تتّخذون أيمانكم دخلاً بينكم ) لأنه لا أَيمان ولا عهود للذين يعطون ابن بنت رسول الله العهود والمواثيق, ثم يخرجون لحربه وأسر أخواته ، فهم أئمة الكفر ( ألا وهل فيكم إلاّ الصلف والنطف، والصدر الشنف ) هذه نفس قوله تعالى في وصف المشركين بأنهم نجس ﴿ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا ﴾ [ التوبة : 28 ] ثم هذا الصلف النطف عندما يتعامل مع الطغاة بـالتملق يكون (كفضة على ملحودة) , تقول عليها السلام ( وملق الإماء، وغمز الأعداء , أو كمرعى على دمنة، أو كفضة على ملحودة، ألا ساء ما قدّمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم ، وفي العذاب أنتم خالدون ) أي أنكم تدعون الإسلام ومحبتنا أهل البيت كفضة على ملحودة أي وعاء فضة وضع على قبر فيه جيفة , فمهما كان هذا الوعاء جميلا فهو ظاهر والحقيقة تلك الجيفة النتنة . هذا مثل من يدعي الإسلام مع استيلاء الأمراض عليه ، و وهي عليها السلام تقرر أن لا علاج له إلا باتصاله بأهل البيت وبالإمام الحسين عليه السلام .


وليس بعيدا عن زينب التي قضت عمرا في أحضان القرآن و تفسير الآيات الإلهية أن تحاكي القرآن .


كلنا نؤذن للصلاة ولكن أذان زينب يختلف . وذلك لأن توحيدها يختلف , وإخلاصها يختلف . زينب أصبحت في قصر يزيد وكلها أذان بالتوحيد والنبوة والولاية . ومثلت المرأة الواعية الذائبة في مولاها , فتحولت إلى أذان وبراءة , لم تكن صرف طبيب معالج بل كانت هي البرء وهي التي رفعت انشغال ذمة هذه الأمة من قتل الإمام الحسين (ع).


أمة كاملة برجالها وقياداتها وشجعانها ومقاتليها فسدت ومرضت في عقيدتها وأخلاقها ، حتى تهلهل وجودها ، فأذّنت فيها زينب بالبرء والشفاء وقطعت علّتها , وتحملت الآلام نيابة عن الأمة التي انشغلت ذمتها أمام الله بأعظم الواجبات , ودلتها على أداء الواجب . فهاهم الملايين اليوم يقصّون أثر زينب يبحثون عن آثار حركتها .

هؤلاء الزاحفين نحو الحسين لا يرددون شعارات لا يفقهونها بل إن هذه الجموع تعيد أذانا لقنته إياهم امرأة أبرأت أمة جدها وأفرغت ذمتهم أمام الله . وما هذا الزحف المليوني في كل عام إلا استجابة لأذان زينب الذي اسمعتْه للأمة عبر الأزمان , ورسالة الأربعين التي نبعثها للعالم في كل عام إنما تعلمناها من زينب عليها السلام .


-------------------------


1- قال أمير المؤمنين عليه السلام في وصف النبي صلّى الله عليه و آله: طَبِيبٌ دوَّارٌ بِطِبِّهِ، قَد أحكمَ مَراهِمَه، وَ أحمَى مَواسِمَه يَضَعُ ذلكَ حيثُ الحَاجة إلَيهِ مِن قلوبٍ عُمي وَ آذانٍ صُمٍّ وَ أَلسِنَةٍ بُكْمٍ مُتتبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الغفلَةِ وَ مَوَاطِنَ الحَيرَةِ. نهج البلاغة ج 1، ص 207




2- تاريخ اليعقوبي ج2 ص76 والبداية والنهاية ج5 ص46 وج7 ص394, والإختصاص للمفيد ص168 وإقبال الأعمال




3- تفصى من الشيء: تخلص منه




4- مفردات الراغب الأصفهاني : أصل البُرْء والبَراء والتبري : التفصي مما يكره مجاورته ، ولذلك قيل بَرَأتُ من المرض وبَرَأتُ من فلان وتَبَرَّأتُ وأبْرَأتُهُ من كذا وبَرَأتُهُ ورجل بريء وقوم برآءُ وبريئون قال عز وجل ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ التوبة /1 ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ التوبة / 3 [2]

ليست هناك تعليقات: