في كل عيد تتراقص في ذهني مقارنات بين العيد في الماضي والحاضر؛ ليس من باب أيهما أفضل بل من باب كيف أن العادات الاجتماعية تتحور مع مرور الوقت؛ ففي الماضي كان العيد أقرب ما يكون لمناسبة جماعية تجمع أهل القرية أو الحي، فتجدهم اعتادوا كيف يقضون أيام عيد وفق نظام دقيق وبرنامج زمني دقيق لا يختل؛ فمن بعد صلاة العيد تبدأ المعايدات وتبادل الزيارات، وموضوع تبادل الزيارات مهم بمعنى أن من يأتي لمعايدتك تذهب أنت كذلك لمعايدته في مجلس الأسرة أو إن كان له ديوانية يجلس فيها، والقصد تعزيز الصلة وتبيان المودة والاحترام. ويبدو أنه مع اتساع رقعة العمران وتمركز الأسر الواحدة في مدن متعددة، فتجد أن تلك العادات بدأت تتعدل وتتبدل، ليس بالضرورة من باب عدم الوفاء أو التململ مما كان سائداً بل نتيجة لتبدل الظروف الاجتماعية.
فمثلاً في السابق كان جدول زيارات المعايدة في الأحساء واضحا متى يزور أهل مبرز الهفوف ومتى يردّ أهل الهفوف تلك الزيارة، أما الآن فقد اندمجت المدينتان، ومن ناحية أخرى ففي السابق كان بوسعك أن تمرّ على أهلك وجيرانك في ساعات قليلة فهم حولك، أما الآن فحتى في حال وجودهم جميعاً في مدينة فالمسافات متباعدة، مما يستغرق وقتاً وجهداً.
وأدرك أن من الأجيال اليافعة من يرى العالم والصلات الاجتماعية من خلال جهاز ذكي، وبعضهم - وأنا هنا لا أنتقدهم - لا يرى أي اشباع في الذهاب من مجلس لآخر لشرب القهوة وتناول الحلويات ثم المزيد والمزيد منها في كل مجلس، بل قد يراها مضيعة للوقت والجهد مما يمكن استبداله برسالة واتسآب يبث من خلالها عبارات العيد المعتاد. هناك جانب عملي في وجهة النظر هذه، لكنها تخلو من معاني التعارف والتقارب وصلة الرحم، التي هي مرتكزات مجتمعنا.
وتحت أي اعتبار فليس القصد أن يؤدي أي شخص زيارة العيد من باب الواجب الثقيل بل من باب أداء ما هو محب؛ فالإنسان السوي اجتماعي بطبعه - كما نعلم جميعاً - يسعى حثيثاً للتعرف على البشر، وبالأخص ممن تجمعه بهم صلة، ليطمئن على أحوالهم ويعرف أخبارهم بما يساعد على التقارب والتحاب، وبالتالي بناء مجتمع متماسك متحاب، أما عندما تتحول تلك المعاني إلى مجرد مجاملات ثقيلة محفزها «علشان ما يقولون الناس»، بمعنى أن الواحد منا يقوم بها تحوطاً من النقدّ وليس لأي سبب آخر..
إن كان الأمر كذلك فلن نصل إلى التواد والتقارب الاجتماعي. وهكذا، فإن الوصول لمعاني العيد لن تتحقق من خلال رسائل تصلك عن بعد مما يفترض أن يأتيك وتأتيه، كما أنها لن تتحقق من خلال من يقوم بالزيارات ليس رغبة ولكن رهبة. وبالتأكيد، فليس الحديث هنا عمن باعدته الأسفار أو المرض أو الأشغال، لكني أتحدث عن «المتسدحين»، ممن ليس لديه أي عذر في عدم التواصل والتزاور سوى التكاسل أو الرغبة في الانزواء. وبالتأكيد، ففي نهاية المطاف الانسان عبارة عن مجموعة من الخيارات، تلك الخيارات الاجتماعية هي التي تصنعه، وتصنع له جسداً اجتماعياً؛ فكما أن لك طولا ووزنا طبيعيين، فكذلك لك طول ووزن اجتماعيان أنت توجدهما بحماسك لبناء صلات مع من هم حولك.
وفوق ذلك، فكما أن لكل منا شخصية ترسم ملامح سلوكه وطباعه وأسلوب اتخاذه لقراراته، كذلك لتلك الشخصية نهج اجتماعي؛ فتجد مثلاً من لا يستطيع أن يبادر بل يتوقع أن يأخذ الطرف الآخر المبادرة ببناء الصلة، وآخر غير آبه بهذا كله بل يرى أن التواصل مع الناس ضرورة يجب أن تبقى في أضيق الحدود، ولذا فكل ما قيل أعلاه لا يمت لاهتماماته بصلة، فمثلاً يجد في عطل العيد فرصة للسفر والاستجمام بعيداً في المنتجعات الخالية مع الجبال والوديان.
وهكذا نجد أن التغيرات الاجتماعية خلال نصف قرن مضى أحدثت تخلخلات عدة في مجتمعنا التقليدي، وصلت للطريقة التي توارثناها للاحتفال بالعيد فغيرتها بصورة جوهرية. وهنا يبرز دور الأسرة في السعي للاحتفال بالعيد باعتباره مناسبة اجتماعية في الأساس، هناك من يظن أن العيد موسم للتسمين بعد هزال رمضان، فيحرص على الانتقال من أكل لأكل في ساعات نهار العيد وليله، وبعضهم للتمشي والذهاب بعيداً، ولعل العيد كل ذلك إضافة للجانب الاجتماعي، فهو مناسبة لبناء جسور جديدة و«ترميم وصيانة» جسور قائمة مع من حولنا ومن هم عنا بعيدون.
ولكن ومهما يك موقفك من العيد وكيفية قضاء أيامه ووقت عطلته فليس أقل من أن تحرص أن يكون لك وللأسرة برنامج، فهذا ما كان يميز أعيادنا في السابق؛ أن الأسر كانت تُعيّد سوياً، فالعيد ليس وقتاً ل «التسدح».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق