الإحساس الإنساني مفتاح معروف للولوج إلى أسرار النفس وما تحمل حيث يصلنا الإحساس بالشعور وبعمق المدى الذي نقف عنده بغض النظر عن قوة ذلك الشعور فنحن ندركه ونستطيع أن نضع له قوة ونحدد مدى تلك القوة .
ولكن وفي بعض الأحيان يصعب علينا تحديد مدى قوة ذلك الإحساس في بعض الشخصيات لما يتميزون به من رهافة غريبة تجعلنا نقف متحيرين ومندهشين من قوة ذلك الإحساس .. ومن بعض الشخصيات التي ينطبق عليهم هذا الأمر .. شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء ( أبو العلاء المعري ) فلنقف معه لحظات قصيرة .
شخصية أبي العلاء المعري من الشخصيات التي لها إطار خاص ولها عالم خاص يختلف عن بقية العوالم ويختلف عن بقية الشخصيات .. وهناك سؤال يخالجني ويلح علي وهو : ما هي البواعث أو العوامل في بلوغ هذه الشخصية تلك المرتبة الرفيعة من العلم وذلك الإبداع الرائع في الشعر ؟
في اعتقادي أن هناك أمرين لو لم يوجدا في شخصية أبي العلاء لما كان لنا أن نعرف هذا الاسم ولا أن نعرف من هذا النبع المتدفق ولا أن نستمتع بهذا الشعر الفلسفي الرائع .. والأمران هما :
1- القوة الخارقة في رهافة الحس التي تؤدي إلى اشتعال النفس وهيجانها .
2- قوة الإدراك الغريبة مع قوة خارقة ومدهشة في شدة اشتعال العق بالذكاء .
في تصوري لولا هذان الأمران لما وجدت اللزوميات ولما ظهر سقط الزند ولتغيرت حياة أبي العلاء بشكل كبير .
وقد يقول قائل : أن هناك أمور أخرى قد أثرت على أبي العلاء ومنها البيئة والمجتمع في ذلك العصر والأحوال السيئة التي عرف بها ؟ كذلك الناس المحيطون به في مجتمعه .. ووضعه الشخصي والعائلي من فقده لأمه وفقده بصره وفقره وغير ذلك ؟
في الواقع أن هذه الأمور تعتبر أمورا فرعية وكملة في تلك الشخصية .. أي أنها تأتي في المرتبة الثانية ..أما الأمور الأساسية ومنها الأمران اللذان ذكرتهما والدليل على ذلك واضح ومعروف ويجرنا إلى سؤال مهم وهو : إذا كانت الأمور الفرعية التي ذكرناها هي الأساس وهي التي تقع في المرتبة الأولى إذا .. لماذا لم يظهر شخص آخر في مستوى أبي العلاء في ذلك المجتمع بالتحديد ويبرز بوضوح ؟ فالأمور التي مر بها أبو العلاء قد يكون بعض الناس مروا بها أو بأغلبها من سوء العصر والفتن وغيرها .. وان كان أبو العلاء يتفوق أحيانا في جوانب وأمور أخرى .
فهل رأيت شخصا آخر ظهر في بلدة المعرة مثل أبي العلاء ؟ بالطبع لا ..
إذا .. اجتمعت في أبي العلاء أمور يندر وجودها في شخص آخر في مجتمعه وهي كما ذكرنا القوة الخارقة في رهافة الحس .. وقوة الإدراك مع قوة اشتعال العقل بالذكاء .. فهذان أمران مكملان لبعضهما البعض في شخصية أبي العلاء ... وهما مع مساعدة تلك الأمور الفرعية قد أوصلاه إلى طريق التشاؤم الذي عرف به .. فهو يعتبر أمام المتشائمين ولاشك أن هذا المتشائم قد أعلن عن اعتزاله الناس بعد رجوعه من بغداد .
قال الأستاذ رجاء النقاش : إن أهم العوامل في سبب اعتزال أبي العلاء وابتعاده عن التكسب بالشعر عقدة المتنبي فإذا كان هذا صحيحا فلماذا لم يعتزل الناس قبل ذهابه إلى بغداد ؟ ألم يلم بشخصية المتنبي ؟ فلماذا لم تصبه العقدة قبل ذهابه إلى بغداد وبالتالي اعتزل الناس ؟
ومن ناحية التكسب بالشعر والارتزاق .ز كانت عزة نفسه تمنعه من ذلك لما عرف عنه من رهافة الحس كما ذكرنا .. يقول الدكتور طه حسين في هذا الصدد ( ولقد كان من اليسير على أبي العلاء أن يرتزق بشعره ولكنه لم يفعل وآثر الفقر وضيق ذات اليد على الثروة يراق في سبيلها ماء الوجه ويحتمل في تحصيلها ذل السؤال .. وهنا تظهر آثار ما ورث عن أسرته وقبيلته من خلق العزة )
فلاحظ أن الذي يمنعه من ذلك عزة نفسه التي ورثها عن أسرته وليس بسبب عقدة المتنبي .. إذا الأمران الذي ذكرتهما آنفا قد اكتملا في أبي العلاء وأصبح يرى الأشياء بمنظار آخر ويحسها بقوة إحساسه ويترجمها بعقله .. فإحساسه هو الذي يشعل نفسه ويجعله وحيدا في نفسه لا يرى من يواز يه أو يجالسه في عالمه .. حتى توفي ورحل إلى العالم الذي يرغب فيها وكأني به الآن يردد هذا البيت :
ضجعة الموت رقدة يستريح الـــ
جسم فيها والعيش مثل السهاد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق