الخطبة التي ألقاها سماحة العلّامة السيد حسن النمر الموسوي بعنوان «تصحيح المفاهيم -البر بالوالدين - ٤» في جامع الحمزة بن عبدالمطلب بمدينة سيهات يوم الجمعة ١٩ جمادى الثانية ١٤٣٥ هجري:
أعوذ بالله من الشيطان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين .
رب اشرح لي صدري ، ويسر لي أمري ، واحلل عقدةً من لساني يفقهوا قولي .
عباد الله ! أوصيكم - ونفسي - بتقوى الله .
ومن تقوى الله عز وجل أن يسعى كلُّ واحدٍ منَّا في ( تصحيح المفاهيم ) ؛ ليتيسر له - بعد ذلك - تصحيحُ الأحكام والتعامل مع الأشياء القريبة والبعيدة ، الأشياء المطلوبة والأشياء غير المطلوبة .
ومن المفردات المهمة التي ينبغي أن يوليها الجميعُ اهتمامَهم اللازم والمناسب هو تنظيم العلاقة بآبائنا وأمهاتنا . الوالدان القريبان المباشران لك والآباء الأبعدون ؛ لأن حقوقَ الجميع لازمة في أعناقنا شرعاً وأخلاقاً .
هل جاءت الشريعة الإسلامية تنظيماتٌ في هذا السبيل ؟! خصوصاً وأن هذا اليوم ؛ الواحد والعشرين من مارس من كل عام ، هو الذي اقتُرح أن يكون يوماً عالمياًّ للبر بالوالدين ، ونسأل الله عز وجل أن نكون وإياكم أن ممن يلتزم هذه السنة الحسنة ؛ سنة البر بالوالدين . ليس في هذا اليوم ، وإنما في كل يوم ، في كل ساعة ، في كل لحظة . ضمن الإطار ومجموعة المبادئ التي جاءت من الله عز وجل وسطرت في القرآن الكريم والسنة المطهرة التي نطق بها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، و تفوَّه بها عنه آله ( عليهم أفضل الصلاة والسلام ) .
الحديث في هذا المجال خصبٌ وثرٌّ ، لا نستطيع أن نستوعبه ، وإنما نقف عند بعض ما جاء في القرآن والسنة في هذا السبيل .
يقول الله عز وجل ، كما في سورة الإسراء . بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ﴾ [ الإسراء / 23 ، 24 ] .
لو وقفنا عند هذه الآية فحسب ، ولم نمر على سائر الآيات ولا الروايات التي جاءت عن النبي وعن آله عليهم جميعاً أفضل صلوات المصلين ، لطال بنا الحديث .
لذلك لن نأتيَ على مفاصل هذه الآية بتمامها وكمالها . فقط نأخذ الجانب الواضح والظاهر منها .
الآية ماذا تقول ؟
يقول الله عز وجل ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ ﴾ و ( قضى ) من القضاء ، وهي في اللغة العربية تحمل أكثر من معنى :
منها معنى القاضي الحاكم ؛ الذي يفصل بين الخصومات في حالات التنازع بين الناس .
ومنها : الأمر .
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ ﴾ - هنا - المقصود : أمر ، يعني أن الله سبحانه و تعالي أمر الناسَ بسلسلةِ أشياء ، من هذه الأشياء التي أمر اللهُ عز وجل بها أمرُه الناس أن لا يعبدوا إلا إياه . فليس لأحد بعد الله ومع الله أن يُعبَد إلا الله سبحانه وتعالى ( لا اله إلا الله ) . وهكذا افتتح النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دعوتَه المباركةَ ؛ في ما يرويه أهل السير ( قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ تُفْلِحُوا )(١).
ماذا يعني أن نعتقد أن الوحدانية في الألوهية لله ، وأن لا نعبد إلا الله ؟
يعني سلسلة من المعاني تلتقي كلها في أن نعتقد أن الله عز وجل هو - وحده - الخالق لهذا العالم ، والمولى لهذا العالم ، ومن له الأمر والنهي بالاستقلال في هذا العالم ، ونترجمَ هذا المعنى بالخضوع - بهذا العنوان - له .
المقصود من العبادة - هنا - هو الخضوع للمعبود ، ليس مطلقَ الخضوع ؛ لأن الله عز وجل في الشق الثاني من الآية أمرَنا أن نحسن إلى الآباء ، وأن نطيعهما ، وأن نخضع لهما في القول . والخضوع هو أحد معاني الانصياع ، يقال فلان عبدٌ لفلان أي مطيع له وخاضع . لكن هناك فرق . العبودية لله سبحانه وتعالى نابعٌ من اعتقادنا بخالقته لهذا العام ، مالكيته التامة لهذا العالم .
في حين أن خضوعنا للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) صحيحٌ ومطلوبٌ ، لكن لا على أساس أنه خالقٌ لهذا العالم ، ولا على أساس أنه مالكٌ لهذا العالم . اللهُ عز وجل أمرنا أن نطيع رسولَه ؛ فقال عز وجل ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ﴾ [النساء / 59] ، والطاعة خضوع . ثم أمَرنا أن نطيع ولاة الأمر بالحق ؛ قال ﴿ وَأُولِي الْأَمْرِ ﴾ .
هؤلاء أضيف إليهم دوائر أخرى .
أول هذه الدوائر التي تتداخل معها بشكل ما ، بل قد تزاحمها في بعض المرات . لما أمر رسولُ الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الناسَ بالنفير إلى الجهاد فجاء إليه أحدُهم ، وقال إن أبوي يكرهان أن أذهب عنهما . ماذا أمره النبيُّ ؟
أن يرجع إلى المنزل ، يعني على حساب الجهاد في سبيل الله(٢). لأنه إذا تزاحم القيامُ بالجهاد في سبيل الله ، وهو أمرٌ لازمٌ ، وذكرنا الرواية وسأذكَّر بها بعد قليل ، إذا زاحم هذا ذاك قُدِّمت طاعةُ الأبوين على الجهاد في سبيل الله في غير حالات التعين والوجوب . إذا تعيَّن الجهاد في فلانٍ من الناس فلـ( لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِق )(٣)، لكن إذا أُمِرنا بالجهاد في سبيل الله ، وكان المطلوبُ من عشرة ، مئة من الأشخاص ، وجاءنا مئتان ، يجب على مئة دون التعيين ، والمئة الأخرى لا يجب عليهم .
فإذا كان بعضُ هؤلاء ، آباؤهم وأمهاتهم لا يرضون ، ندخلهم في أي دائرة ؟
ندخلهم في المئة المرغوب عنها ، وليس في المرغوب فيها . هذا في حالات التزاحم .
الله سبحانه وتعالى يقول اخضعوا للآباء والأمهات ، لكن لا على أساس أنه خالقون ، ولا على أساس أنهم يملكون ، لكن على أساس أن لهما في عنق كلِّ واحدٍ حقاًّ وحقوقاً لا نستطيع أن نقوم بواجباتها والتزاماتها .
أما العبادة فهي محصورة الله عز وجل .
وهنا أفتح قوسين : العبادة لا تعني خصوص الركوع ، ولا تعني خصوص السجود . الركوع إنما يكون عبادةً إذا قُصِد به خصوص هذه الهيئة بين يدي مَن نعتقد أنه خالق . هذا الفعل يكون محرماً لغير الله عز وجل ، وكذلك الحال في السجود .
فلو أن أحداً قام بهذه الهيئةِ ؛ هيئةِ الراكع ، لكن ليس على أساس أن مَن يقف أمامه خالقٌ له ، هل هذا فعلٌ محرمٌ ؟ أو ليس بفعل محرم ؟
نتكلم عقائديا : ليس هذا الفعل موقعاً للإنسان في الشرك بالله عز وجل ، وإلا سيكون سجودنا بين يدي الكعبة سجوداً للكعبة ! ولا يقول بهذا أحد . نحن لأن الله أمرنا أن نسجد له متوجهين في حالة الصلاة إلى الكعبة خرجنا .
ماذا فعله يعقوبُ النبيُّ ( ع ) ؛ وهو نبي لا يعصي اللهَ عز وجل ، في تأويل ما حصل ليوسف ؟
خرَّ أبوه ، وأهل بيته ؛ إخوانه ، ليوسف ساجدين ، هل كانوا يعتقدون أن يوسف يُسجَد له من دون الله ؟
أو أن الله عز وجل لمَّا أمر الملائكةَ أن يسجدوا لآدم أمرهم بفعلِ محرمٍ ، يعني موقع في الشرك ؟!
لا . لكن هنا أيضاً نكمل هذا القوس في فقهنا - نحن أهل البيت ؛ فقه الأمامية - لا يجوز السجودُ لغير الله لها ، لا بعنوان الاعتقاد أنه الله ؛ لأن ( لا اله إلا الله ) ، لكن حتى من دون الاعتقاد بأنه الله ، السجود هذه الهيئة المعروفة - كما ينص عليه الفقهاء في الرسائل العملية - أمرٌ لا يجوز(٤)، لكنه لا يوقع في الشرك لو أن أحداً فعله جهلاً . لم يعرف الحكم الشرعي وفعل السجودَ ، لا يكون قد أشرك ، لكنه فعل أمراً يحرم من الناحية الشرعية . والتفصيل في هذا ، أسبابه ، وحِكَمه ، وغاياته ، هذا حديث آخر .
الله سبحانه وتعالى بماذا أمرنا هنا ؟
قال ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ﴾ ، ثم انتقل مباشرة إلى الحديث عن الأبوين . اقتران الإلزام من قِبل الله عز وجل للناس أن يحسنوا إلى آبائهم وأمهاتهم بالعبودية لله والعبادة له ، هذا يكشف عن أهمية هذا الأمر اللازم فقهياًّ ، واللازم أخلاقياًّ .
لاحظوا التفصيل : قال ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾ .
المطلوب أن يكون الواحدُ منا محسِناً إلى أبويه .
كيف نعبِّر عن هذا الإحسان ؟
أمرٌ مفتوحٌ . وسيأتي أن في الشريعة الإسلامية جاءت بعضُ هذه المفردات ، لعلنا نوفق لقراءة بعضها .
﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا ﴾ الوصية بهما في الكِبَر هل يعني أن الله لم يوص بهما في حالة الشباب ؟
الجواب : كلا . لكن لأن الكبير في السن في مظنة العجز في نفسه وإلحاق وتحميل الآخرين بعض الخدمات ، الله عز وجل خصَّص هذه الحالة بشكل آكد وبشكل أوضح .
الكبير في السن قد لا يتمكن من القيام ، قد لا يتمكن من القعود ، قد لا يتمكن من كثيرٍ مما يحتاجه الإنسان . مَن الذي يفترض أن يتولى هذه الشؤون منه ؟
أبناؤه ، بناتُهُ .
بعضُ الأبناء والآباء - للأسف الشديد - لا يحسنون إلى آبائهم وأمهاتهم ؛ فيقصِّرون . ولأن هذا في مظنة الوقوع في الخطأ والتقصير جاءت الوصيةُ من الله عز وجل والأمرُ .
﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا ﴾ يتوفى أحدهما ويبقى الآخر ، أو لا ، يمن الله عز وجل عليك بأن يبقى أبواك في حالة الحياة وهما كبيران في السن ، ويحتاجان منك إلى رعايةٍ شديدةٍ ، ما الذي عليك أن تفعله ؟
تأتي الآية وتنص ﴿ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا ﴾ .
وفي الروايات أن هذا اختيار النهي من باب النهي عن الادنى للدلالة على حرمة الأعلى ؛ لأن كلمة ( أف ) ؛ وهي الكلمة التي تصدر في مقام الانزعاج من شخصٍ يحمِّلك بعضَ الأذى ، لم يقل شيء لكن فقط قال ( أف ) ؛ من باب التأفف ، حتى هذا المقدار ﴿ فَلَا وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾.
يفترض بالإنسان أن يعتني في اختيار الأقوال مع الأبوين بشكلٍ خاصٍّ أن يكون القول قولاً كريماً . يعني - لا سمح الله - لو صدر من الأبوين في حالة غضب ، في حالة انزعاج ، في حالة ضعف ، صدر منهما بعضُ الكلام الذي ما كان ينبغي أن يصدر من مثلهما لكنه صدر ، كيف يكون ردة فعل الولد ، البنت ؟
﴿ وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾ قل لوالدك ؛ حتى لو صدر منه بعض الغلط : غفر الله لك ورحم الله أباك ، ولن أرد على إساءتك بمثلها ؛ لأن حقك في عنقي أكبر من أن أبادل السيئةَ بسيئة .
ينبغي للإنسان ؛ ما استطعت ، اسكت ، لا ترد على أبيك . نعم ، لو أن الأب - لا سمح الله - أو الأم رفع يده ليتطاول على ولده بالضرب . عندك حالتان : إما أن ترد ؛ تمسك . إن استطعت أن تتحمل ضرب أبيك فجزاك الله خيراً ، لكن إذا لم تتحمل ضربَ أبيك تستطيع أن تمنعه من أن يضربك ، لكن لا تتعامل معه كما تكون في حالة الصراع بين الناس ، إذا ضربك فاضربه ! لا . مع أن الله عز و جل أجاز للإنسان أن يرد العدوان بمثله ، لكنه في ما يتعلق بالأبوين هناك استثناءات شرعية ، ﴿ وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾.
﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ﴾ ، يستعير الله عز و جل الرحمة كما لو كانت طائراً ، والطائر إذا أخفض جناحيه نزل وهبط إلى مستوى الأرض ، هذا هو المطلوب من الإنسان أن يتعامل مع أبويه . ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ﴾ ، يعني اجعل نفسك أمام أبويك ذليلاً . لا ينبغي للإنسان أن يلبس لباس العزة مع أبيه ؛ فيقول ويرد عليه رداًّ شديداً ويناكفه ؛ وهذا ما يحصل .
أشرنا في الأسبوع الماضي إلى أن هناك قصوراً وتقصيراً ، بل وللأسف الشديد قد يُقابل الإحسان بالعدوان . ومن أين ينشأ هذا ؟
ينشأ من ضعف الثقافة الشرعية من جهة ، ومن ضعف الالتزام الشرعي من جهة أخرى . نحتاج أن نعزز هذين الأمرين إذا اراد الواحد منا أن يقوم بهذا الواجب .
ثم الآية تقول ؛ تنبهنا إلى شيء إلى أن هذا الأمر ما كان يحتاج إلى وصيةٍ خاصةٍ ؛ إذا استرجعنا ذاكرة التاريخ ﴿ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ﴾ . أبواك حينما ربياك صغيراً ضحيا من أجلك بما كان اللازم أخلاقيا أن تضحي من أجلهما . هما لما ضحيا ضحيا من أجلك ، لكن هنا أنت حينما تضحي تضحي من باب رد الجميل ، أعطياك دون أن يتوقعا شيئاً من الإحسان ؛ وهذا ما نجده . نجد أن الآباء والأمهات يكدحون كدحاً شديداً ، وللأسف الشديد نجد أن كثيراً من الأبناء يقصِّرون ، يغفل عن أن هذه الأم التي تنام بعده ، وتستيقظ قبله ، وتدخل إلى المطبخ ، وتقوم بما لا يلزمها أن تقوم به ، من أجل من ؟؟
من أجل هذا البيت ومن فيه ، بما فيهم أنت أيها الولد ، قد يضحي الأب بلقمة الغذاء التي يحبها فيسأل أولاً ما الذي يرغب فيه الأبناء ؛ لأنه يخشى أنه إن طلب الأكل الفلاني فلن يرغب فيه الابن ! فيضحي برغباته من أجل الأنباء ؛ فيأتي هذا الولد الذي - للأسف الشديد - لم يتأدب بالآداب الشرعية ويتحكم ، يغفل عن أن أمه قضت ساعتين ، ثلاث ساعات ، في المطبخ ، وبكل سهولة مع أول لقمة قال ما هذا ؟! بنبرةِ غيرِ المعجَب .
ينبغي أولاً أن تشكر والدتك على هذا الجهد الذي قامت به ، ثم تضيف اقتراحاً بطريقةٍ لبقةٍ وبطريقةٍ مؤدبةٍ ، ألا تشعرين بأن الملح زاد ، أو الملح نقص ، ليس من باب اللوم ! ومن باب الإيذاء ! ومن باب الإزعاج ! هذا يضر الإنسانَ أدبياًّ وأخلاقياًّ ونفسياًّ . وإذا آذى الإنسانُ أبويه فليتوقع الأذى من أولاده .
ولذلك الآية تقول ﴿ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا ﴾ ، فالإنسان ينبغي أن يسأل الرحمةَ الإلهيةَ لأبويه بسبب ما فعلاه من أجله في صغر سنه ، يعني أنك تعترف أولاً بأن ما ستبذله ليس هو المكافئةَ المناسبةَ لأبويك ، بل تسأل الرحمةَ من الله عز و جل لهذين الأبوين من أجل أن ينزل اللهُ عليهما الرحمةَ .
أذكر ثلاث عناوين بشكلٍ سريعٍ وأختم ؛ لأن - كما ذكرت - الحديث في هذا طويل ، وأوصي بقراءة دعاءٍ نطق به الإمام السجاد ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) في الدعاء لأبويه ، دعاءٌ فيه من المضامين ما يحتاج كلُّ واحدٍ منا أن يقف عند مفرداته واحدةً واحدةً .
1 – البر بالوالدين أفضل الأعمال
النص الأول أو الموقف الأول من الروايات الذي نقف عنده : ما ذكرناه في الأسبوع الماضي أن البر بالأبوين من أفضل الأعمال .
فقد روى الشيخ الكليني ( رحمه الله ) بإسناده عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنه قال ؛ أي الراوي : قلت أي الأعمال أفضل ؟
قال : الصلاة لوقتها ) ، هذا حق الله عز وجل . لا يجوز للإنسان أن يقصِّر في حق الصلاة أصلاً ، ولا في أداءها في وقتها الشرعي .
( وبر الوالدين ، والجهاد في سبيل الله عز و جل )
2 – البر بالوالدين أمر واجب
الأمر الثاني : وجوب البر
ليس هذا أمراً اختيارياًّ ؛ من شاء أن يفعله ومن لم يشأ له أن لا يفعله . لا ، هذا أمرٌ واجبٌ ؛ كما قرأنا في الآية الشريفة . كما أُمِرنا بالعبادة لله عز وجل أُمِرنا أن نحسن لأباءنا وأمهاتنا .
طبعاً ، آليات الإحسان كما ذكرنا ، وكيف نصنع هذه الثقافة . الثقافة - هذه - تُصنع بالقول ، وتُصنع - قبل ذلك – بالفعل .
أنت إذا وجد فيك ولدُك أنك ممن يحسن إلى أبويه تلقَّف هذه الثقافة ، فإذا عززتَ الثقافةً الفعليةَ بثقافة قولية تأكد هذا المعنى .
الشيخ الكليني أيضا بإسناده عن الإمام الباقر ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) : ثَلَاثٌ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِأَحَدٍ فِيهِنَّ رُخْصَةً ) يعني غير مسموح لأحد بأن يتخلف فيها .
أ - (أَدَاءُ الْأَمَانَةِ إِلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِر ) ، إذا استأمنك أحدٌ أمانةً ماديةً أو أمانةً معنويةً ؛ كأن يسلِّمك مبلغاً مالياًّ ليس لك أن تخونه فيه ، بل لابد أن تعطيه إياه . وإذا شهدتَ على ما يجب الشهادة عليه ليس لك أن تنكص عن أداء الشهادة ، ﴿ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ﴾ [ البقرة / 283 ] لا فرق في هذا بين أن يكون من استأمنك على هذه أو تلك براًّ أو فاجراً ، العدل واجب ، وأداء الحقوق واجب .
ب - ( ثَلَاثٌ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِأَحَدٍ فِيهِنَّ رُخْصَةً : أَدَاءُ الْأَمَانَةِ إِلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ ، وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ ) إذا تم بينك وبين أحدٍ عهدٌ ، بالمعاني العامة ، تعاقد ، بيع وشراء ، زواج ... إلى غير ذلك مما يفصِّله الفقهاء لا يجوز لأحد أن يتخلَّف عن مقتضَيات العهود والعقود ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة / 1] وفسرت بالعهود كما هنا .
جـ - (وَ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ بَرَّيْنِ كَانَا أَوْ فَاجِرَيْنِ ) ، لا فرق في ما يتعلق بأداء حقوق الأبوين بين أن يعجباك أو لا يعجبانك ، ترضى عنهما أو لا ترضى عنهما ، مؤمِنَين أو غير مؤمِنَين ، بل الرواية تصرح ( بَرَّيْنِ كَانَا أَوْ فَاجِرَيْنِ )(٥) الأب أب لا يجوز العدوان عليه ، والأم أم لا يجوز التعدي عليها ، الواجب هو أن نحسن إليهما ، جعلنا الله وإياكم من هؤلاء .
3 – البر بالوالدين حيين وميتين
الأمر الثالث : البر بالوالدين حيين وميتين
في البند السابق ذُكر البر والفجور ، يعني أن صفة الوالدين من حيث الصلاح وعدمه لا يمنعان من ضرورة الالتزام بهذا الواجب ، هنا مسألة التوسعة الزمنية ، لا فرق بين أن يكونا حيين أو ميتين .
أيضاً في الرواية قال الإمام الصادق ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) : مَا يَمْنَعُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ أَنْ يَبَرَّ وَالِدَيْهِ حَيَّيْنِ وَ مَيِّتَيْنِ ) .
ولعل أحداً يسأل : كيف ؟
الإمام يبادر بالإجابة : يُصَلِّيَ عَنْهُمَا ، وَيَتَصَدَّقَ عَنْهُمَا ، وَيَحُجَّ عَنْهُمَا ، وَيَصُومَ عَنْهُمَا ؛ فَيَكُونَ الَّذِي صَنَعَ لَهُمَا ، وَلَهُ مِثْلُ ذَلِكَ ؛ فَيَزِيدَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِبِرِّهِ وَصِلَتِهِ خَيْراً كَثِيراً )(٦).
قد يكون في عنق والدك بعضُ الواجبات الشرعية لم يؤدها ، قصر في صلاته ، يجب على الولد الأكبر - كما يقول الفقهاء - أن يقضي ما فات والدَه ، لكن هذا لا يمنع بقيةَ الإخوة أن يشاركوا . لو فاتت الأم لأن هناك خلافاً بين الفقهاء لو فات الأم عدد من الصلوات هل يجب على الولد الأكبر ؟ هناك خلاف . أليس من حق الأم أن يرفع ما تعلق بها من التكليف ببر هؤلاء الأبناء ، فيكون لها حسنة ولأبنائها حسنة ، وكذلك الحال في الحج وفي الصدقة ، من ذكر أبويه ذكره الله عز وجل بالخير .
أيضا هنا الرواية ذكر فيها الإمام (ع ) : إِنَّ الْعَبْدَ لَيَكُونُ بَارّاً بِوَالِدَيْهِ فِي حَيَاتِهِمَا ثُمَّ يَمُوتَانِ فَلَا يَقْضِي عَنْهُمَا دُيُونَهُمَا ) يقصِّر بعدهما ، صحيح جزاه الله خيرا ، في حال الحياة كان بارا ، لكن البر بالوالدين يمتد إلى ما بعد الموت ، لماذا يقصر الإنسان وهو قادر على هذا المعنى ؟!
ثم يقول : ثُمَّ يَمُوتَانِ فَلَا يَقْضِي عَنْهُمَا دُيُونَهُمَا ) هذا أمرٌ غيرُ واجبٍ ، لكن الإمام ( عليه السلام ) يحبذ لنا هذا المعنى : وَلَا يَسْتَغْفِرُ لَهُمَا ؛ فَيَكْتُبُهُ اللَّهُ عَاقّاً . وَإِنَّهُ لَيَكُونُ عَاقّاً لَهُمَا فِي حَيَاتِهِمَا غَيْرَ بَارٍّ بِهِمَا ، فَإِذَا مَاتَا قَضَى دَيْنَهُمَا ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمَا ؛ فَيَكْتُبُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَارّاً )(٧) يعني الإمام ( عليه السلام ) يقول : لا ينبغي أن يفوتك الخير ، وإذا فاتك الخير فإن من نعم الله عز وجل أن المجال مفتوح للاستدراك .
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه .
اللهم صل على محمد وآل محمد .
اللهم كن لوليك الحجة ابن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وليا ، وحافظا ، وقائدا ، وناصرا ، ودليلا ، وعينا ؛ حتى تسكنه أرضك طوعا وتمتعه فيها طويلا .
اللهم انصر الإسلام والمسلمين ، واخذل الكفار والمنافقين .
وأصلح ما فسد من أمر ديننا ودنيانا ، واجعلنا يا رب ذكورا وإناثا ، كبارا وصغارا من يبر أبويه وآبائه وأمهاته ، ونعوذ بك أن نكون من العاقين ، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين .
هوامش :
(١) دلائل النبوة للبيهقي ، ج 2 ، ص 186 .
(٢) روى الشيخ الكليني في أصول الكافي ، باب البر بالوالدين ، الحديث 10 : ... عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( ع ) قَالَ : أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ ( ص ) ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنِّي رَاغِبٌ فِي الْجِهَادِ ، نَشِيطٌ . قَالَ : فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ( ص ) فَجَاهِدْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؛ فَإِنَّكَ إِنْ تُقْتَلْ تَكُنْ حَيّاً عِنْدَ اللَّهِ تُرْزَقْ ، وَإِنْ تَمُتْ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُكَ عَلَى اللَّهِ ، وَإِنْ رَجَعْتَ رَجَعْتَ مِنَ الذُّنُوبِ كَمَا وُلِدْتَ . قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّ لِي وَالِدَيْنِ كَبِيرَيْنِ يَزْعُمَانِ أَنَّهُمَا يَأْنَسَانِ بِي ، وَيَكْرَهَانِ خُرُوجِي ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( ص ) : فَقِرَّ مَعَ وَالِدَيْكَ . فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُنْسُهُمَا بِكَ يَوْماً وَلَيْلَةً خَيْرٌ مِنْ جِهَادِ سَنَةٍ ) .
(٣) من لا يحضره الفقيه ، كتاب الحج ، باب الحقوق .
(٤) قال السيد السيستاني في منهاج الصالحين ، كتاب الصلاة ، باب السجود :
مسألة 659 : يحرم السجود لغير الله تعالى ، من دون فرق بين المعصومين عليهم السلام ، وغيرهم ... ) .
وقال السيد محمد سعيد الحكيم في منهاج الصالحين :
( مسألة 268 ) : يحرم السجود لغير الله تعالى من دون فرق بين المعصومين عليهم السلام والأولياء المقربين لله تعالى . وسجود الملائكة ليس لآدم عليه السلام بل لله عز وجل تكريما لآدم ، وكذا سجود إخوة يوسف عليه السلام ليس له بل الله عز وجل ... ) .
(٥) أصول الكافي ، كتاب الإيمان والكفر ، باب البر بالوالدين .
(٦) أصول الكافي ، كتاب الإيمان والكفر ، باب البر بالوالدين .
(٧) أصول الكافي، كتاب الإيمان والكفر، باب بر الوالدين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق