لم تمنع الإعاقة الجسدية العديدين من شبابنا من دخول سوق العمل أو مواصلة تحصيلهم العلمي داخلياً أو حتى الانضمام للبعثات الخارجية، وكذلك لم يمنع التزام العديد من الفتيات بتربية أطفالهن من الالتحاق ببعض أكثر الجامعات تَطلُباً. كانت تلك العزيمة حاضرة وملفتة في حفل تخريج الدفعة السابعة من برنامج الابتعاث في واشنطن؛ أم خريجة وأمامها مستقبل يتجسد فعلياً في دفعها عربة رضيعها وابتسامة عريضة مرسومة على وجهها بما أنجزته، وقبل ذلك مَرّ شابٌ خريج يدفع كرسيه بيده جنباً إلى جنب مع آلاف الخريجين، بوجهٍ مبتهج يشعّ فرحاً بالحصول على الشهادة والتغلب على إعاقة جسدية حطمتها العزيمة والاجتهاد. ولم تقتصر صلابة التصميم على أم قررت أن ترعى أسرتها بالتزامن مع نيل شهادتها، أو شاب تجاوز الإعاقة الجسدية باقتدار وثقة، بل شملت حتى صغارنا في واشنطن؛ تَجلتّ عندما خرجت على المسرح مجموعة طفلات صغيرات، وكانت تلف الذراع الأيمن لإحداهن جبيرة! ومع ذلك كانت الصغيرة تلك من بين الأكثر تألقاً بابتسامتها المشرقة وفرحتها بهذا الجمع الغفير.
هذه أرواح تواقة تشع قوة وإيجابية، فهل تمثل ظاهرة عامة؟ ندرك جميعاً أن الحياة مكابدة، وقد قال الشاعر منذ قرون «تعب كلها الحياة». هناك من يستسلم ويصنع من الصعوبات أعذاراً يلف بها حياته. وعلى النقيض، هناك من يريد أن يرسم حياته باعتبارها سلسلة لم تنقطع من نجاحاتٍ متتابعة؛ يخرج من نجاح ليدخل في آخر، وأنه كسب المباراة مع الأهوال وكانت النتيجة لصالحه ألف:صفر! إن صادفك أحد هؤلاء، فاعرف أنه لم يدرك بعد كيف يقبل الخسارة ليتعلم منها لا لينكسر على صخرتها أو يلجأ للتهيؤ وتعويد ذاكرته على التنكر للفشل وامتلاك النجاح. أذكر ونحن صغار أن كان منا من يتقلب على الأرض غيظاً وغضباً بل وحتى بكاءً عندما يخسر فريقه، وأن آخراً يتعارك مع الحكم ويشكك في نزاهته، وثالث يتفكر في خسارته وما السبيل لتحسين أدائه.
هذه الروح التواقة المتوثبة الإيجابية والقوية هي التي شاهدتها بين القائمين على رعاية المبتعثين في الولايات المتحدة، فقد شمل برنامج يوم الأحد أمسية من نوع مختلف، نظمتها الملحقية الثقافية للمرة الأولى، بأن يستعرض رياديون من المبتعثين أفكاراً استثمارية. بدأ الحفل في السابعة والنصف واستمر لمدة ثلاث ساعات كاملة. أسباب عدة ساهمت في نجاح هذه الأمسية، لعل في مقدمتها أريحية المواطنة القائمة عليها د.موضي الخلف، فقد حرصت على ترتيب كل التفاصيل، ومنها اصرارها على جميع الرسميين والرعاة أن يرتجلوا كلماتهم وألا يحمل أحد أوراقاً ليلقي خطباً! عرض المبتعثون أفكارهم على الحضور ولجنة الحكم، التي كانت برئاسة أستاذي في مرحلة البكالوريوس في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، الأستاذ محمد العويد. ولكن قبل البداية بيّن مقدم الحفل القدير عبدالرحمن البواردي، وهو شاب مبتعث، المعنى الذي بَدأتُ به هذا المقال؛ أهمية الإصرار والروح الوقادة. كان المتنافسون بحاجة لهذه النصيحة في تلك اللحظات وفي سواها.
عُرِضت أفكار تنم عن حسن غربلة من قبل القائمين على مسابقة «تَمَكنّ»، والتي كانت برعاية بنك البلاد وبتنظيم من الملحقية ومعهد ريادة الأعمال الوطني (ريادة). راقت لي تجربة لطيفة الوعلان وقهوة «يتوق» وتصميمها وتصنيعها لدلة القهوة العربية العجيبة، وتجربة فارس التركي واستثماره في مطعم فطور فارس في جدة الذي بدأ بـ«هاشتاق» على تويتر! طُرح في المسابقة عشرة مشاريع. تتمتع جميعاً بعمق في التفكير والتصور والبحث، أما ما راق لي فقد كانت ثلاث أفكار، وهي: مشروع مركز متخصص للتوحد لرحاب الزاير ومشروع لتدوير نفايات البناء والهدم الخرسانية لعبدالعزيز الشبيب، ومشروع كفاءة الطاقة لمضيان المضيان.
لعل من الملائم أن تحذو جامعاتنا حذو هذه المسابقة، ولاسيما أن البنية التحتية لدعم الريادة بدأت تكتمل، وإن على مهلّ، من حيث تكاثر الجمعيات والشركات واقبال الرعاة ونشاط بنك التسليف والادخار لتمويل المشاريع الناشئة. ومن ناحية أخرى فإن بث الروح الريادية بين خريجينا مهمة، فهي تحصنهم من الفشل، بقبوله في حال حدوثه، بأن عليه أن ينهض ويواصل المشوار. ولعل الأهم من ذلك أن عليه أن «يصنع» فرصته في الحياة وإن عزت الفرص، فقد لا يجد الوظيفة الحلم، أو قد يجد وظيفة لكنها لا تشبع طموحه الوظيفي أو المالي، فهل ينتظر أن يمنحه أحد فرصة للارتقاء والتقدم؟ ولا يعني هذا ألا نسعى لتوظيف خريجينا، فالبلد يعج بالوافدين، بل يعني أن يكتسب خريجونا «ثخانة جلدّ» تمكنهم من تحمل متاعب الحياة العملية وتقلباتها وتقيهم الاستسلام والاتكال على الغير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق