عندما وقعت تفجيرات بوسطن، كان في ذلك النهار ما يقارب 40 طبيباً سعودياً مشغولين في تطبيب الجرحى والمصابين في مستشفيات بوسطن، وبوسطن مرتكز للجامعات، ولا سيما العريق منها، وبالأخص في مجال الطب والتخصصات المتصلة به، ففيها هارفارد وييل وتفتز وبوسطن، ولكل منها مراكز طبية هائلة من حيث الحجم والقدرات البشرية، وهو أمر يقرّ لها به الجميع. وكما ندرك فإن دراسة الطب في الولايات المتحدة هي دراسات ما بعد البكالوريوس؛ بمعنى أنه يشترط لدخول كلية الطب حصول المتقدم على شهادة جامعية. وبطبيعة الحال فالأمر لا يتوقف على الحصول على شهادة جامعية بتميز، ولكن كذلك تجاوز اختبارات ومقابلات، وفوق كل ذلك أن ينافس للحصول على أحد الخمسين ألف مقعد المخصصة لطلبة الطب، فتلك هي سعة الكليات.
وفيما مضى من أيام حاول العديد من خريجي كليات الطب في المملكة مواصلة دراساتهم التخصصية في كليات الطب والمشافي الأمريكية، ولكن دون جدوى. فكما نعلم، وهذا أمر لا تنفرد به الولايات المتحدة، فلن يكون بوسع الطبيب أن يمس مريضاً دون أن يحمل الطبيب رخصة بالمزاولة. والحصول على هذه الرخصة أمر شديد التنافسية، ولسنوات بقينا خارج المنافسة، وكان السعوديون يتجهون لأوروبا ولا سيما بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وبعدها إلى كندا. ولذا فإن جل جيل المخضرمين من الأطباء الكبار لدينا تخصصوا في تلك الدول.
قبل أقل من شهر من الآن كنت في زيارة لمستشفى "برمجن أند ومين"، وهو أحد المشافي التعليمية لكلية الطب في هارفارد، ولا شك أنه كيان مبهر بالفعل، لكن الشاهد أنني أثناء جولتي مررت على أسماء بعض الأطباء تبدو لمواطنين، ثم تأكد لي ذلك بالفعل. لكن ما الذي حدث مؤخراً حتى بدأت العجلة تدور، لنجد سعوديين يتخصصون في كليات الطب الأمريكية؟ سنحت لي الفرصة أن استمع للدكتورة سمر السقاف، وهي المشرفة المسئولة عن التخصصات الطبية في الملحقية التعليمية في واشنطن. وكما ندرك فإن اعداد المبتعثين ضمن برنامج خادم الحرمين الشريفين في تصاعد، والعدد في الولايات المتحدة تجاوز 100 ألف، فيما عدا المرافقين. وفيما يتعلق بموضوعنا، فإن عدد الأطباء السعوديين الذين يتدربون في المستشفيات الأمريكية تجاوز 400 طبيب، منهم حوالي 120 طبيبة، من إجمالي نحو 4000 يدرسون التخصصات الطبية على تنوعها. ومن الـ 400 طبيب مبتعث في أمريكا فنحو 20 بالمائة منهم ملتحقون في كليات النخبة، أي التي من ضمن أفضل 10 بالمائة من كليات الطب الأمريكية. وإجمالاً فعدد السعوديين في الجامعات الراقية في تصاعد، إذ يدرس في هارفارد حالياً نحو 24 طالبا سعوديا، وهو رقم قياسي. وفي مجال الطب فإن عجلة قبول المزيد من الطلاب في تسارع، ففي العام الدراسي الحالي قبل 8 أطباء في جورج واشنطن، ومثلهم في كلية تفتز في بوسطن، وأربعة في كيس وسترن ريزيرف ومثلهم نيويورك وشيكاغو وسواها.
وتجدر الملاحظة هنا أن عدد المقبولين من الأطباء كان 57 في العام 2008 وتصاعد باطراد ليضاعف أربع مرات ويصل إلى 211 في العام الحالي.
ما الذي حدث؟ ما أحدث الفرق هو بذل الملحقية للجهد في إعداد الأطباء وتجهيزهم لتحسين فرص فوزهم بفرصة لمتابعة دراساتهم التخصصية، والجهد أثمر باستقطاب أكاديمية مواطنة متخصصة للقيام بالعمل، وقد وفرت الملحقية للدكتورة سمر السقاف فريقا متخصصا يساند وينفذ ويتابع أداء الطلاب. ويبدو أن الموضوع بالنسبة للدكتورة سمر تحد شخصي، فهي تدرك أهمية إلحاق الأطباء والطبيبات الشباب في أفضل كليات الطب وأكثرها تقدماً في العالم فهذه الكوادر ستعود للوطن، وستدرس الطب في الجامعات السعودية، وستمارسه في المستشفيات المتزايد عددها، وستنقل معها تجربتها في طرق العلاج ومباشرة المريض.
أدرك أن د.سمر تؤدي واجبها، شأنها في ذلك شأن بقية موظفي الملحقية، وموظفي الحكومة كافة. لكن لا بد من الإقرار أن المساهمة في بناء الكوادر المواطنة المؤهلة هي أفضل عمل يمكن أن يقوم به أي منا، لاعتبارات كثيرة لن أسردها، بل أكتفي بالقول أن تنمية وتطوير الموارد البشرية هي التحدي الأساس أمامنا، وأن امتلاكنا خبراء مهرة في شتى المجالات هو ما سيحدث فرقاً حقيقياً لمجتمعنا ولاقتصادنا حالياً بتقليديته وفي مسعاه للتحول للمعرفة، فتراكم المعرفة في عقول المواطنين الخبراء هي التي ستجعل اقتصادنا معرفياً، وستجعل له مكانة تنافسية قائمة على الابداع والإنتاج.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق