الثلاثاء، 16 سبتمبر 2014

الشيخ عبد الله النمر: عجزنا عن زراعة محبة المعرفة في أبنائنا ناتج عن خوائنا من هذه الأحاسيس

    

دعا الشيخ عبد الله النمر إلى إعادة صياغة النظرة الاستراتيجية للتعلم لدى الأسر والمجتمع في إطار نظرة تكاملية، مبديا أسفه من هذه الحالة التي تحولت فيها المدرسة إلى "عقاب" ومصدرا لإزعاج الأبناء، وبيّن أن سبب عجز المجتمع عن غرس المحبة للعلم والمعرفة هو خواء المجتمع من هذه المشاعر نحو المعرفة والتكامل.

وابتدأ سماحته خطبة الجمعة الأخيرة تاليا الآية الكريمة ( أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما  يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، إنما يتذكر أولي الألباب). وأوضح سماحته أنّ هذه الآية تجعل محورية الصلاح والفضل في العلم (هليستويالذينيعلمونوالذينلايعلمون).


• علم الأبدان وعلم الأديان


وأضاف: نتوقف وقفة مختصرة عند موقعية العلم في الأمم وفي بناء النهضة الإنسانية، المقصود بالعلم هو مطلق المعرفة ومطلق العلم، وكما يصطلح عادة حيث يقسم العلم تقسيما عاما بأن هناك علم أديان وعلم أبدان.


علم الأبدان هو كل ما يرتبط بتنشئة البدن، سابقا كان يقصد بعلم الأديان الفقه وعلم الأبدان الطب، اليوم من الواضح أن المعارف الإنسانية توسعت وتشعبت، ويمكن أن يذكر فيما يخدم الأبدان الكثير من المعارف، فمن أوضح نماذج هذه المعارف هو علم الطب بلا شك، ولكن اليوم العلوم التي تخدم النشء الإنساني من حيث بدنه كثيرة ومتشعبة، كالفيزياء والأحياء والكيمياء، كلها سخرت لخدمة بدن الإنسان.


بل أن كثير مما هو مألوف في السابق تحولوت إلى علوم وصناعات، كما هو الحال في الصناعة والزراعة، إذ لم تعد هذه الأمور مجرد آداب وسلوكيات متوارثة وإنما خاضعة لمنهجية علمية تسهل استثمارها، فكم هو الفرق بين المزارع بالأمس الذي يستخرج من الأرض بمقدار معين من الناتج والمحصول، بينما اليوم بواسطة المعارف والعلوم البشرية أصبح الناتج أضعاف أضعاف ما كان يستخرج في السابق. وهذا يمكن أن يدخل تحت عنوان علم الأبدان.

علم الأديان أيضا متشعب وله فروع كثيرة، ما يسبق للذهن هو علم الفقه، نعم ما يختصره العرف اليوم بأن الفقه هو مجموعة النسك والعبادات التي يتصدى الفقهاء لتوضيحها ضمن عنوان الفتاوى، هذا تصور مغلوط، فالفقه هو معرفة علم الدين في ترتيب الحركة الشخصية وفي ترتيب البناء الأسري وترتيب النهضة الاجتماعية، كل هذا داخل في علم الفقه، وكمال الإنسان هو بمقدار ما ينطوي على،ويحتوي من نور المعارف في علم الأديان وفي علم الأبدان.

• العلم ومواقع الأمم


النقطة الثانية موقعية العلم في الحراك الإنساني اليوم، إذا كانت الأمم فيما سلف تتصارع وتتدافع بنحو فيزيائي وعسكري كما هو حال الأمم في تاريخها المديد، اليوم لم يعد التدافع محصورا بالعسكرة والتدافع الميداني، اليوم أصبح الفعل والنهضة والرهان الحضاري ينطلق على أساس العلم والمعرفة، الذي من خلاله تقوى الأمم في كثير من مناحيها.


 اليوم النزاع الإنساني يدور مدار الإبداع الاقتصدي والإبداع الخبروي في المجال التكنولوجي مثلا، الذي يضفي على الأمم قدرة ومكنة في بناء ذاتها، بل أن التدافعات العسكرية بالأمس كانت تعتمد على الشجاعة والعضلات والمواجهة المباشرة، اليوم من خلال العلوم والمعارف الإنسانية، أصبح الأكثر إحاطة بالمعارف أقدر على مغالبة الأمم الأخرى والتقدم عليها.


• بين العلم والمعرفة


بل أن للعلوم أيضا آفاق أخرى سوف نشير إليها، ولكن نتوسل إلى إبانة ما أريد أن أصل إليه في موقعية العلم في بناء النهضة الإنسانية - وليس مجرد المغالبة الأممية- نستعين بإرشادات أمير المؤمنين (ع) الذي كان يقول : " لقاح المعرفة دراسة العلم ".
لاحظوا، في أثناء كلامي قبل قليل كنت أورد لفظة العلم والمعرفة بنحو من اإجمال والترادف، بينما في لسان أهل البيت (ع) يميزون بين العلم والمعرفة، إذا فكل ما نتعلمه إنما هو في قمة آفاقه وفي أعلى مستوياته، هو بداية شرارة المعرفه وأول المعرفة، بل إن هذا المعنى ينصص عليه أيضا (ع) في قوله: " العلم أول دليل، والمعرفة آخر نهاية". ويقول أيضا (ع) وهو حكيم البلغاء وبليغ الحكماء:" المعرفة الفوز بالقدس".


العلم هو الإحاطة التصوّرية بواقع هذا الوجود، نتصوّر المعادلات الفيزيائية، تتكشف لنا المعادلات الكيميائية، نحيط علما بقوانين البدن في عالم الطبّ، هذه كلها تصورات في عالم الإدراك العقلي، ولكن ما يراد بالعلم في الحقيقة هو مجرد أرضية ومقوّم للانطلاق إلى عالم المعرفة.


ولكي ألفت أنظاركم إلى الخصوصية اللغوية للعلم والمعرفة، نحن نستعمل، كما كنت أتحدث قبل قليل في الخلط بين العلم والمعرفة، في عمومنا هكذا نقول، ولكن على السليقة نحن نقول، يعني بعفو المنهجية اللغوية نقول: أنا أعرف زيدا، ولا نقول: أنا أعلم زيدا.


 لأن المعرفة تتعلق بالواقع الخارجي والمصداق الخارجي، أما العلم فهو التصور العام، أنا أعلم قواعد الفقه، وذلك يجهل قواعد الكيمياء، هذا طبيب وعالم في الطبّ، ولا يقال: عارف في الطبّ، نعم هو يعرف بعض التفاصيل.


العلم هو الإحاطة الكلية بالقواعد الكلية، المعرفة هي تشخيص الجزئيات والواقع الخارجي، ولمس الواقع الخارجي، ولذا يكون التعامل مع الله عزّ وجلّ في عالم المعرفة لا في عالم العلم فقط، "من عرف الله عرف كلّ شيء ومن لم يعرف الله لم يعرف شيئا"، لا يقال : من علم الله، العلم بالله يعني حضور التصورات الإجماليه.


• رهان الحضارات


 لتكون هذه القاعدة مقدمة لما أريد أن أصل إليه، أريد أن أقول أن العلم، والمعرفة – بالاصطلاح المجمل- هما اليوم رهان الحضارات، في الغلبة والمكنة وتوفير أسباب الرفاه، فأولا هو آلة للمغالبة، نلاحظ اليوم أن الأمم التي تصل إلى مستويات أعلى في العلم تكون أقوى اقتصاديا وتغالب الأمم الأخرى عسكريا، وأيضا توفر لنفسها أسباب الرفاه، لأن العلم يحيط بكل ألوان المعرفة، بما يشمل حتى علوم النفس والاجتماع وعلوم ترتيب الأمم فنجد أن الأمم التي تتحلى بالعلم والمعرفة تكون أقدر على نظم نفسها وبناء جياتها وإسعادها.
• التكامل والبناء
ولكن هتين المرحلتين إنما هما في الحقيقة مقدمة للعلم والمعرفة، فما يراد من العلم هو بلوغ السعادة الروحية والتكامل النفسي، يقول أمير المؤمنين (ع) " العلم بالله أفضل العلمين"، نعم هناك علوم ومعارف كثيرة، ولكن العلوم المرتبطة بآلاء الله وأسمائه وما يرتبط به عزّ وجلّ، هذا ما ينعكس على روح الإنسان بالتكامل وىالترقي، وهو الغرض النهائي في الحقيقة.
 كما لعله هو المقصود من قوله (ع): " لقاح المعرفة دراسة العلم"، يعني أن تدارس العلم والأخذ بأسباب المعرفة من خلال المدارسة والنظر والتأمل، إنما هو لإثارة حالة المعرفة في أعماق الإنسان، معرفة الإنسان بنفسه وبخالقه، وبآلاء الله تعالى وبقدراته، حيث بذلك تنتظم روح الإنسان ومبانيه الداخلية ومشاعره وأحاسيسه.

• المدرسة والاستراتيجيا

هذا الكلام قد يكون ذا معاني عامة ومجملة، ولكن نحن في هذه الأيام نعيش بداية سنة دراسية تتأثر بها كلّ الأسر والعوائل التي تبتلي بأطفال يذهبون إلى المدرسة ويراودونها.

أؤكد لكم إخواني أن هذه الأيام عند كثير من الأمم هي مرحلة جد واجتهاد ومرحلة للانطلاق، لأنهم يعون وبوضوح كم لهذه الحركة من قيمة، لاحظوا نحن كم نبذل من الجهد لإرسال الأولاد والنشء الجديد إلى المدارس، وكم نبذل من مجهودات روحية وفكرية ومالية واجتماعية، ولكن ما هو هدفنا؟ وما هي آليات هذه الحركة الجمعية؟ وما هو واقع الثمرة الفعلية التي تترجى؟ ما هي الاستراتيجية التي على ضوئها نحن نتحرك؟ لنلاحظ أنه بعد سنة أو سنتين أو خمس سنوات ماذا أنتجنا من هذا المجهود؟
هل أن كل هذا المجهود والتعب والبذل لا يتجاوز أن يكون يهيئ لأولادنا أسباب الرزق والكسب ؟ هل أن المعرفة والعلوم تتمحور وتضيق إلى أن تكون أسباب كسب مالي؟!!

• العلم في إطار المال

في فترة من الفترات حينما كانت بعض المجتمعات تجد أسباب الكسب من غير دراسة العلم ساد بين أجيالها سطحية المعرفة، لأنهم لا يرون في هذا اللون من التعلم معنى لأنهم يستطيعون أن يصلوا إلى أهدافهم الاقتصادية من غير التوسل بهذا الجهد والتعب، وبمجرد أن يصل الشاب إلى المتوسطة أو الثانوية يقال له لا تضع وقتك وجهدك في تتبع هذه العلوم والمعارف حيث أن أسباب الكسب متاحة من خلال العقار أو بعض مناحي الكسب السريعة السهلة فيختصرون على أنفسهم.
ولكن على المستوى الطويل أصبحت هذه المجتمعات ضحلة التفكير ومحدودة الإدراك، وغير قادرة على منافسة الأمم. هذا النموذج في الحقيقة يمكن أن يكون هو يمثّل الواقع الوسيع في مجتمعنا، فنحن نحتاج إلى أن نلتفت إلى هذا النشء الجديد، كم نحن بحاجة إلى أن نعاني الكثير لكي نجعله يتحرك لغرض العلم والمعرفة، بل لعله نموذج التحرك للتعلم في دائرة الاقتصاد هو أحسن من جيل نرسله في التعلم فيرجع وهو مختلّ في العقيدة.

هذا ماذا تعلّم؟ تعلّم بعض الاصطلاحات والتصوّرات، ولكنه لم يبنِ معرفة ناضجة واعية، ولم يبنِ البناء الذاتي، ومن هنا أؤكد أنّ هذا هذه الانطلاقة التي أدعو إليها في كسب العلم لا أخاطب بها الجيل الناشئ والصاعد، فهذا كلام للجميع، الكل يجب أن يتحرك في سبيل بناء ذاته علميا، يجب أن ينتحرك في سبيل المعرفة والكسب، يقول صادق أهل البيت (ع): " ليت السياط على رؤوس أصحابي حتّى يتفقهوا في الدين".

إن التفقه في الدين كما كررنا ليس هو الإحاطة ببعض الفتاوى الشرعية، التفقه في الدين معرفة أغراض الدين وفهم المرادات العامة من أصل هذه الخليقة، الفقه هو الفهم والمعرفة، هذه الحركة التكاملية هي غرض الخليقة، يجب أن نستثمر هذه الحركة الاجتماعية الموجودة وذهاب الأطفال نحو المدارس لنجعل من هذه الحركة حركة مثمرة وواعية.

• ضعف الدافع

مع الأسف نحن نفتقر إلى الحركة الإنسانية الصحيحة في دراسة أبنائنا، يذهبون إلى المدارس لحفظ مجموعة من الاصطلاحات ليقدموا امتحانا وينتقلون إلى المرحلة اللاحقة، من غير أن نزرع في أنفسهم ونوثق في أرواحهم حبّ المعرفة والعلم.


 وأزداد أسفا عندما أقول أن هذا العجز عن غرس حبّ العلم قبل الذهاب إلى المدارس، وقبل أن يتحوّل الذهاب إلى المدارس إلى مؤنة يومية، وقبل أن تتحول المدرسة إلى عقاب وإزعاج وأذية مقابل التمتع بأسباب اللهو، عدم قدرتنا على زراعة هذه الرغبة والشوق إلى المعرفة ناتج عن خوائنا من هذه الأحاسيس، نحن لا نستطيع أن نزرع في نفوس أبنائنا إحساسا نحن لا نملكه، إذا كنت أنت أيها الأب خلال الأسبوع والشهر لا تقرأ كتابا ولا تطّلع على معارف جديدة، لا على مستوى المعرفة الفقهية ولا على مستوى بناء العقيدة، لا يوجد عندك إحساس بالرغبة الحادة المؤثرة الفاعلة في التكامل الروحي بمقدار ما أنت مشغول ببناء الأسرة وأسباب النهضة المادية.


عندما تكون أنت خاليا من هذه المشاعر فبالحري أن لا تستطيع أن تزرعها في إبنك. إن إلزام الأطفال بالذهاب والإياب لا معنى له ما لم يكن هناك زراعة للإحساس بأهمية المعرفة والعلم، حتى لا تكون مدة الدراسة هي مدة الإلزام والإخضاع.

• المعلّم الرسالي


هذا من جهة، من جهة ثانية مؤسفة أيضا، عندما تتحوّل هذه الشريحة التي هي يفترض أن تكون ممثلة الأنبياء والرسل، الذين نؤمنهم فلذات أكبادنا هذه الساعات الطويلة، يتحوّلون إلى مجرّد موظفين رسميين، يذهب إلى المدرسة ليؤدي وظيفة معينة ويخرج من المدرسة وهو خالي الوفاض من الإحساس بالمسؤولية. طبعا هذا الشأن العام والواقع العام الفعلي، لا أنفي وجود البعض ممن يشعر بالمثالية والمسؤولية بالإحساس بأهمية بناء هذا النشء بناءا علميا ومعرفيا صادقا، هذا يوجد بلا شكّن ولكن لا بنحو أنه يوجد حالة عامة وحراك عام.
نحن في هذه الأيام نعاني ونبذل ونصرف الكثير الكثير في سبيل أن نرسل أبناءنا إلى المدارس ولكن نرجو أن تكون هذه الحركة خاضعة لإدراك ووعي وفكر واستراتيجية واضحة، وأن لا تكون مجرد إلزامات سنوية نكررها.
نرجو من الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وجميع المؤمنين إلى ما فيه الخير والصلاح والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ليست هناك تعليقات: