بين يدي موسم الحج ؛ حيث شرف اللهُ عز وجل هذه البلادَ بأن يكون فيها الحرمُ الشريفُ ، وتستضيف ضيوفَ الرحمن ؛ من مشارق الأرض ومغاربها ، والذي يحمِّل البلادَ ؛ على مستوى المسؤولين ومستوى الشعب ، الكثيرَ من المهمات والمسؤوليات ؛ التي يحاسبهم اللهُ عز وجل عليها ؛ إحساناً ، أو إساءةً نعوذ بالله .
أسأل الله عز وجل أن يكتب للحجاج حجاًّ مقبولاً ، وأن يجعلهم وهذه البلادَ وجميعَ بلاد المسلمين آمنةً من عبث العابثين وإرهاب الإرهابيين إن شاء الله .
***
1 - مقاصدية الأحكام
الحج هو واحدٌ من التعاليم الإسلامية ، والأحكام التي جعلها اللهُ عز وجل في صدر الأحكام الشرعية ؛ حيث جُعِل من الأركان الأساسية ؛ على غرار الصلاة والزكاة والصيام ، والتي لا يجوز للمسلمين أن لا يمتثل لها ؛ إذا توفر هو على شروطها . فإن الله عز وجل يقول { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمينَ } [ آل عمران / 97 ] .
كلُّ من توفرت فيه شروطُ الاستطاعة للحج يجب عليه أن يبادر إلى الحج ، ولا يجوز له أن يتراخى . وقد ورد تهديدٌ شديدٌ جداًّ في حق مَن يتراخون عن أداء الحج اللازم عليهم ؛ إذا وجب في ذمتهم ، ليس لأحدٍ أن يتراخى .
وأما المستحب ، المستحب إدمان الحاج مهما استطاع الإنسان ، طبعاً إذا توفر له ذلك دون أن يزاحم الآخرين .
الحج - كغيره من الأحكام الشرعية - لم يشرِّعه الله عز وجل عبثاً ، وحاشا للحق سبحانه وتعالى أن يكون عابثاً.
لم يفعل اللهُ عز وجل شيئاً ولم يخلق خلقاً عبثاً ، كما أنه لم يشرع تشريعاً بشكل عابث وسدى . هذا أولاً .
وثانياً : لابد أن يكون الهدف والغاية ؛ التي ترجع من هذا التشريع وذاك ، تتناسب مع طبيعة هذا الفعل ، ومع طبيعة المشرِّع سبحانه وتعالى .
الحج ينطبق عليه هذه القاعدة ؛ على غرار الصوم ؛ حيث يقول الله عز وجل { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة / 183] . هذا بيانٌ لِما يُرجى للصائم أن يصل إليه من خلال الصوم .
ويقول عز وجل ؛ عن الصلاة { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } [العنكبوت/ 45] . وهذا - أيضاً - بيانٌ لِما ينبغي للمصلي أن تنتهي الصلاة به إليه ؛ وهو أن يكون متجنباً ومنتهياً عن الفحشاء والمنكر ؛ بكل أشكالها ، وبكل مستوياتها .
فإذا لم يتحقق للصائم التقوى ، يعني أن هناك خللاً ، ليس في التشريع ، وإنما في الامتثال . وإذا لم ينتهِ المصلي عن الفحشاء والمنكر ، يعني أن هناك خللاً ، ليس في التشريع أيضاً ، وإنما في الامتثال .
أحياناً يكون هناك فعلٌ من الفاعل ، وهناك استقبال من المستقبِل ؛ القابل ، الخلل لا يكون في الفاعل ، الفاعل - هنا - من هو ؟
الله سبحانه وتعالى هو المشرِع ، لكن المشرعَّ له ؛ وهو القابل المخاطَب بوجوب الحج والصلاة والصيام ، من هو ؟
نحن الناس .
فإذا لم تتحقق مقاصدُ التشريع لا يعني أن التشريعات فيها نقص ، وإنما النقص في الذين امتثلوا ، لم يراعوا جانباً من الجوانب التي كان يجب عليهم أن يراعوها .
2 - خصائص الحج والبيت الحرام
الله سبحانه وتعالى كيف يعرِّف لنا الحج ؟ وماذا أراد منا أن نقوم به في الحج ؟
مثلاً : يتحدث عن الحج ؛ في الآية التي ذكرناها قبل قليلٍ ، أن يكون حجاًّ لله سبحانه وتعالى . ليس حجاًّ للتباهي ، ولا للرياء ، ولا للتفاخر بين الناس أنه ممن ذهب إلى الحج ، ولا أنه من باب حشرٌ مع الناس عيد ، الناس يحجون هو أيضاً يذهب إلى الحج ، الناس يذهبون للسياحة هو يذهب أيضاً للسياحة ! لكن بدل أن يذهب إلى اليمين واليسار ، الناس يذهبون إلى الحج هو يجاريهم ! ليس هذا هو المقصود !
الله عز وجل يقول { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } [آل عمران / 97] ؛ أي : أن حج البيت ؛ والمقصود بالحِج - هنا - : القصد ، يعني : قصد البيت الحرام .
نقصده لمن ؟
لله .
وفي آية أخرى يقول { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ } [البقرة/ 196] .
ينبغي أن نؤديه لوجه الله عز وجل .
الآية أيضاً تكمل ؛ تقول { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } ، ثم تحذر { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } [آل عمران: 97] . الكفر - هنا - بأي معنى ؟
إن كان كافراً على مستوى التشريع [ فـ ] ليس هذا من المسلمين ! لكن إن كان كافراً على مستوى الامتثال ؛ أي متمنعاً عن أن يمتثل ، وهذا كفر نعمة . الله سبحانه وتعالى غني عن الأول ، وغني عن الثاني ، والمتضرر هو الإنسانُ نفسه .
هذه من خصوصيات البيت الحرام .
من خصوصيات هذا البيت ؛ الذي ألزم الله عز وجل الناس أن يقصدوه ، وقد ورد في الخبر عن الإمام الباقر ( عليه أفضل الصلاة و السلام ) تفسير الحج { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْت } أن الحج هو من أفلح ، يعني من قصد البيت أفلح ، يعني حقق القصد الذي أراده اللهُ عز وجل للإنسان أن يصل إليه ، بالتالي بالتأكيد { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } [المؤمنون/ 1] فمن يقصد حجَّ بيت الله عز وجل الحرام يكون من المفلحين المصلحين .
ولذلك ، ورد الكثير من الثواب لمن يقصد بيت الله عز وجل ؛ بلغنا الله وإياكم ذلك .
هذا البيت الذي قصده هو الذي شرع الله عز وجل للناس ؛ بنحو الوجوب أو الاستحباب ، أن يقصدوه لم يُشرَّع ذلك عبثاً ، وإنما لِما فيه من البركة الشاملة .
لاحظوا ماذا يقول الله عز وجل { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } [آل عمران/ 96، 97] .
هذه الآية المباركة تشير إلى وجوه من البركة الموجودة في البيت الحرام :
أولاً : أنه أول بيت وضع للناس ، يعني أول بيت عبادة .
{ وُضِعَ لِلنَّاسِ } طبعا ، لعل أحداً يقول : إبراهيم ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) هو من شيَّد البيت الحرام !
الجواب : هو أن البيت كان موجوداً قبل إبراهيم . إبراهيم كان فعله ؛ كما يظهر من الآية ، تقول{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ } [البقرة/ 127] . البيت كان موجوداً فحصل له تهدم بسبب الطوفان ؛ كما ورد في الرواية ، وإلا فإن الروايات تذكر أيضاً ، ومنبع الثقافة الإسلامية والمعارف الإسلامية في الكتاب الكريم والسنة المطهرة ، أين تاب الله عز وجل على آدم ؛ لما أراد أن يتوب ، واستغفر ؟
أليس في مكة المكرمة ، وفي عرفات ؛ حيث التقى بحواء ؟! وأبلغهم الله عز وجل أن التوبة قد حصلت(١).
نفس هذا النسك صدر من إبراهيم ، لكن صدر - قبل ذلك - من آدم ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) نفس هذا ؛ كما ورد في الأحاديث عن أهل البيت ( عليهم أفضل الصلاة والسلام ) . وإبراهيم إنما فعل التجديدَ ؛ لأنه بالتأكيد قبل إبراهيم كان هناك بيوت ؛ أي بيوت الله . عنوان بيوت ، مساجد ، ما يشبه المساجد ، بالتأكيد كانت قبل إبراهيم موجودةً ، فماذا يعني { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } ؟
يعني أن هذا البيت وضع للناس قبل إبراهيم ، وإبراهيم إنما قام بتكليفٍ من الله عز وجل بتجديد معالم هذا البيت . لماذا ؟
لأن في هذا البيت هدى للناس ، لأن في هذا البيت بركةً للناس .
أي بركة ؟
البركة المعنوية قبل أن يكون هناك بركة مادية ، هناك بركة معنوية لا يستغنون عنها . ومن ثم ، ورد في الأحاديث الشريفة أن هذا الدين لا يزال عزيزاً ( ما قامت الكعبة )(٢)، يعني ما دامت الكعبة . وليس المقصود أيضاً حجارة الكعبة ؛ لأن حجارة الكعبة قد تتقوض ؛ مثلا : نتيجة عوامل الزمان ، أو نتيجة سيول ، ثم يشيِّدها الناس ، أو تحتاج إلى تجديد في بنائها . حينما تهدَم بالكعبة لهذا الغرض ، أو تتهدم ، ويكون الناس بصدد إعادتها . هذا اليوم ، أو اليومين ، أو الأسبوع ، الأسبوعين ؛ حيث لا يكون للكعبة بناءٌ ، هذا لا يعني أن الكعبة قائمة ؟!
إذن ، أين يصلي الناس ؟!
الناس يصلون إلى هذه البقعة ، يتجهون إلى الله عز وجل إلى هذه الجهة ؛ التي هي الكعبة الحالية ؛ ببنائها المعروف ، والذي كان في يوم من الأيام أقلَّ ارتفاعاً ، ثم صار أكثر ارتفاعاً . هذا المكان أراد اللهُ عز وجل من الناس أن يتوجهوا إليه ؛ من خلال التوجه إليه .
{ إَنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } لم يكون بيتاً ؛ يعني بيت من بيوت الله ، لفئة خاصة ، كل الناس الذين يرجون الهدى والبركة والخير لأنفسهم لا مجال أن يحظوا بالخير الرباني إلا من خلال التوجه إلى هذا البيت ؛ الذي تحظى هذه البلاد وأهلها بشرف خدمته والقيام عليه . وفقهم الله عز وجل إلى ذلك .
لكن الآية تحكم بشيء مهم جداًّ . ماذا تقول ؟
{ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِناً } أي : دخل البيت ، والمقصود ليس البيت الكعبة ، هذا المسجد الحرام .
زين ، الذين لا يوفقون إلى الذهاب إلى البيت الحرام ؛ نتيجة فقر مادي ، واللهُ عز وجل إنما كلف أهل الإمكانات ، المستطيعين ، إلى الذهاب إلى الحج ، أما الفقراء فيستحب لهم الحج . لكن ماذا لو لم يتمكن أن يذهب إلى الحج ، هل هذا سيكون محروماً من الدخول إلى البيت ؟
الجواب : كلا ، الدخول إلى البيت الحرام يمكن أن نقول مستويات :
هناك من يدخل إلى البيت الحرام بالذهاب إليه ؛ حاجاًّ أو معتمراً .
لكن هناك من يدخل إلى البيت ؛ بإيمانه بما كلفه الله عز وجل أن يؤمن به ؛ بما فيه شعائرية هذا البيت ، ولو من خلال استقباله { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِناً } .
نعم ، هناك أحكامٌ خاصة للدخول إلى البيت الحرام . فإذا دخل الإنسانُ إلى منطقة الحرم له سلسلة من الأحكام . يحرم عليه مجموعة من المحرمات ؛ تصل إلى أربعة وعشرين ، أو خمسة وعشرين ، أو ستة وعشرين ؛ حسب اختلاف الفقهاء . هذه منطقة أمن ، حرم أمن إلهي ، شجرها لا يقلع ، نباتاتها لا تقلع ، الصيد فيها لا يصاد ؛ حتى المجرم الذي يُطالَب بجريرة ؛ ارتكبها خارج الحرم ، لا يجوز أخذه داخل الحرم . نعم ، يُنتظَر إلى أن يخرج ؛ بل حتى يضيق عليه ؛ ولو بمقاطعته اقتصادياًّ ؛ لا يباع ، لا يشترى ، حتى يجد نفسه مضطراًّ إلى الخروج . وبالتالي ، يقام عليه الحد خارج الحرم ، أو يطالب بالإثم والجرم الذي أخذ على كل حال .
المطلوب إذن من الإنسان أن يدخل هذا البيت المادي بأحكامه ، والدخول المعنوي ، الإيمان بهذا البيت ، الإيمان بلا إله إلا الله ، الإيمان برسالة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأنه خاتم النبيين .
آية أخرى تتحدث عن قول الله عز وجل { جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ } [المائدة/ 97] .
كيف تكون الكعبة البيت الحرام قياما للناس ؟
يعني أن الإنسان يقوم ، وليس المقصود بالقيام القيامَ الجسدي ، القيام بمعنى النهضة الشاملة . لا ينبغي للناس أن يقصِّروا في حق أنفسهم ؛ بالتمرد على الله عز وجل ، بالعمل بغير ما كلفهم به . إذا وفقهم الله عز وجل للعمل بهذا التكليف توفرت لهم أسباب النجاح ، أسباب الفلاح ، أسباب الصلاح .
ولن تحصل هذه إلا بالعمل بالمحاور والتكاليف التي كلفهم الله عز وجل بها ، ومحورها هذه الكعبة المشرفة .
3 - منافع الحج في السنّة
في الرواية ورد عن هشام بن الحكم يسأل عن علل الحج ومقاصده . هشام ابن الحكم قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) . فقلت له : ما العلة التي من أجلها كلَّف اللهُ العبادَ الحجَّ والطوافَ بالبيت ؟ )
طبعاً ، خلفية السائل ، هو يدرك ما أشرنا إليه في أول الحديث ، أن الله لا يكلف الناس عبثاً ، لابد أن هناك غاية ، لابد أن هناك قصداً . فكان جواب الإمام ( عليه السلام ) : إن الله عز وجل خلق الخلق لا لعلة ) يعني لا لعلة يرجوها لنفسه ، لا لعلة أصلا ؛ لأن الله عز وجل يقول { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات/ 56] . لكن هذه العلة ، وهذه الغاية ، ترجع إلى الخلق لا إلى الخالق .
يقول : إن الله عز وجل خلق الخلق لا لعلة ، إلا أنه شاء ففعل ) مشيئته تعلقت ؛ فتحقق فعله ( فخلقهم إلى وقت مؤجل ) يعني خلقهم في هذه الدنيا ؛ كمجموع ، إلى وقت معين محدد ، ( وأمرهم ونهاهم ما يكون من أمر الطاعة في الدين ) يعني : ما ألزمهم به من : تكاليف ، واجبات ، مستحبات ، ومن : نواهي ، محرمات ، ومكروهات ، ( ومصلحتهم من أمر الدنيا فجعل فيه ) أي : في الحج ( الاجتماع من المشرق والمغرب ) .
كم هي الفائدة التي يجنيها الناس إذا اجتمعوا ، وتحقق بينهم بسبب الاجتماع ؟
كبير ، على مستوى البلدة الواحدة ، والأسرة الواحدة ، إذا تحققت هذه العناوين الطيبة ، يترتب عليها الكثير من الآثار الإيجابية ، فكيف إذا اجتمعت الأمة ؛ ولو من خلالها هؤلاء النخب ، هؤلاء الذين يتحقق فيهم عنوان الاستطاعة ، والمستطيعون هم - عادة - نخب الأمة ، تجارها ، أثرياؤها ، المتمكنون فيها ، وبالتالي هم أصحاب الرأي ، أصحاب الحل والربط في الأمة . إذا اجتمعوا في هذا الصعيد الطيب ؛ يعرف كلُّ واحدٍ منهم ، أو مجموعة تعرف مجموعة أخرى ، ماذا عندكم ؟ ماذا عندنا ؟ ماذا تملكون ؟ ماذا نملك ؟
نفس هذا الاجتماع بركة .
ثم الإمام يفصل ؛ ما الذي يترتب على هذا الاجتماع ، يذكر ثلاث فوائد رئيسية ، قال :
أولاً : ليتعارفوا ) أي ليعرف كلُّ فريق منهم الآخرَ ، وما يترتب على هذه المعرفة ؛ على المستوى الشخصي ، على المستوى الاجتماعي ، على المستوى الاقتصادي ، على المستوى السياسي . والموسم موسم شهود منافع { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ } [الحج/ 28]. قال ( ليتعارفوا ) .
ثانياً : ولينزع كلُّ قوم من التجارات من بلد إلى بلد ) الناس حينما يذهبون إلى الحج ؛ بالخصوص في السنين السابقة ، تمتد رحلة الحج إلى أشهر ، وفي الغالب كان الحجاج يصطحبون معهم منتوجاتهم ، بعض محاصيلهم التجارية ، من أجل تأمين تكاليف الرحلة ، أو ما هو أزيد من تكاليف الرحلة ؛ من جني الأرباح . وليس في ذلك بأسٌ .
في السابق - مثلاً - لم يكن هناك مطابع توزع على مستوى عالمي ، أبناء الشرق يأتون بالمخطوطات التي عندهم ، يكتبونها ثم يجلبونها إلى الحج ، وأهل المغرب يفعلون الشيء نفسه . إذا أراد العلماءُ الحصولَ على كتب ، وكنا نتمنى أن يكون في مكة المكرمة مثل هذا المعرض الدائم للكتاب وللمعلومات والأفكار .
اقترحنا ، ونجدد الاقتراح في ينبغي أن تتحول هذه المنطقة إلى منطقة خير وبركة ؛ على المستوى الثقافي والفكري ، وكذلك الاقتصادي ، يمكن حتى السوق الإسلامية المشتركة ، يمكن أن تكون في مكة المكرمة ، من دون أن يكون هناك ندب وتحريك ، الناس بشكل طبيعي يقصدون الحج ، ويترتب عليها هذه الفائدة ، فكان العلماء إذا أرادوا أن يسألوا عن كتاب من الكتب ، يسألون عنه في أيام الحاج ، هل جلب هذا الكتاب ، أو جلبت بكتب جديدة ، فيحصلون في موسم الحج على ما لا يحصلون عليه في بلدانهم ؛ لأنها نقطة التقاء بين هؤلاء جميعاً . ( ولينزع كلُّ قوم من التجارات من بلد إلى بلد ) .
( ولينتفع بذلك المكاري والجمال ) يعني أصحاب وسائل النقل . في السابق كان المكاري والجمالين ، اليوم أصحاب الطائرات ، أصحاب النقليات ، أيضاً في موسم الحج ؛ حتى الأسعار تتفاوت ، يعتبرون هذا موسماً ، أسعار التذاكر تتغير وتختلف الفنادق يستفيدون ، وأمثال ذلك .
الأمر الثالث : ( ولتعرف آثار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وتعرف أخباره ، ويذكر ولا ينسى ) الناس يحتاجون إلى مَن يربطهم بالله عز وجل بشكلٍ حسنٍ . كيف نتأسى بالأسوة الحسنة ، والقدوة الحسنة ؟
نرتبط برسول الله ؛ الذي جعله الله عز وجل قدوةً وأسوةً حسنةً { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب/ 21] . إذا ذهب الإنسان إلى مكة المكرمة ، وإلى المدينة المنورة ، يستعرض ؛ ولو بشكل موجز ، تاريخ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، كان هنا ، هاجر من هذه المنطقة إلى هذه المنطقة ، هذا مكان معركته الفلانية ، الفعل الفلاني .
ولذلك ، كان ينبغي أن تحفظ مثل هذه الآثار المادية ، والآثار المعنوية ، التي تتناقل تاريخياًّ .
ثم الإمام ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) يبين لو لم تترتب مثل هذه الآثار الإيجابية ( ولو كان كل قوم إنما يتكلون على بلادهم ) أي يتقوقعون ، ويعتزلون في بلدانهم ( وما فيها هلكوا ، وخربت البلاد ) اليوم ليس هناك بلد من بلدان الدنيا ؛ لا البلدان الكبيرة ، ولا البلدان الصغيرة ، تستغني عن بضائع من الشرق ، أو من الغرب ، هذا التبادل الاقتصادي ؛ والذي أصبح يحدد مصائر الأمم ، هذه القوة الاقتصادية ؛ والتي وفرها اللهُ عز وجل للمسلمين ؛ من خلال الحاج .
يعني تصور لو أننا أردنا أن نقيم معارض الكتب وللسلع ، ومؤتمرات ، لاحتجنا إلى الكثير من الأموال الطائلة ، في حين أن الحج يوفرها لنا بشكلٍ يتحمل كلُّ واحدٍ من المشاركين تكاليف نفسه على الأقل ، لو استثمِر هذا بشكلٍ جيدٍ لعاد بالنفع على المسلمين جميعاً . هذا في الجانب المادي ، أما في الجانب المعنوي فلا يمكن حصر ذلك .
يقول ( ولو كان كلُّ قومٍ إنما يتكلون على بلادهم ، وما فيها ، هلكوا ، وخربت البلاد ، وسقط الجلب والأرباح ) يعني : ما يجلب من البضائع والأرباح ( وعميت الأخبار ) أي أخبار الرسول ، وأيضا أخبار الناس ( ولم يقفوا على ذلك . فذلك علة الحج )(٣).
الإمام ( عليه السلام ) يقول هذا علة الحاج .
طبعاً ، هذا العنوان العريض ، لكن العناوين التفصيلية نجد روايات أخرى تتحدث عن تفاصيل كثيرةٍ جداًّ .
ولذلك ، تأتي الآية الشريفة التي تتوج لنا الغرض الذي هو أهم من هذه الأشياء ، يعني أهم من الجانب الاقتصادي ؛ وهو الجانب المعنوي الذي يحتاجه الناس ؛ أن يرتبطوا بالله عز وجل ارتباطاً خالصاً ، ارتباطاً يحفظ لهم الطهارة التامة ؛ على مستوى العقول ، على مستوى النفوس ، يقول عز وجل { وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ } .
ما المطلوب من إبراهيم أن يفعله ، وممن يتأسى ويقتدي بإبراهيم ؟
يقول { وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا } [الحج/ 26] ألا نجعل لله عز وجل شريكاً في التدبير ، والربوبية ، والأمر ، والنهي . الله عز وجل أكبر من أن يشاركه في أمره شيءٌ { لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ } [الروم/ 4] . هنا نفهم ماذا قال الله عز وجل قبل قليل في الآية التي سقناها { جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ } [المائدة/ 97].
الناس كيف يقومون وهم مكبلين بالخرافات ، بالأوهام ، بالجهالات ، الجهالات التي تنتج لنا الكثيرَ من التصرفات الشائنة ، الكثير من التصرفات غير اللائقة !
أليس المسجدُ يُفتَرض به أن يكون مكاناً للمحبة ، ولإشاعة الخير بين الناس ؟! المسجد ليس مكاناً لأستعرض فيه عضلاتي وأشوش فيه عليك ، أو تشوش فيه عليَّ . المسجد نأتي فيه نريد وجهَ الله سبحانه وتعالى ، أصحاب هذا المذهب يأتون إلى بيت الله ، لم يأتوا لا إلى بيتي ولا إلى بيتك ، وأنا حينما أذهب إلى بيت الله عز وجل أنا قاصدٌ وجهَ الله ، فلا أزاحمك ولا تزاحمه .
ولذلك ، يدور هناك نقاش بين العلماء في : أيٍّ من الأطراف له حق التقدم . مثلاً : الذين يذهبون إلى المسجد الحرام هناك من يطوف ، هناك من يصلي ، هناك من يدرس ، هناك من يتلو القرآن ، ماذا لو زاحم هذا الذي يصلي ذاك الذي يطوف ، أي أصحاب الحق ؟ هل يستطيع المصلي أن يزاحم الطائف ؟ أو الطائف يزاحم المصلين ؟ لكلٍّ منهم حقٌّ في هذا البيت .
الربانية والذوق الرفيع
هذا يعتمد على ربانية هذا الإنسان . يعني لنفترض المصلي عنده متسع من الوقت ، من المكان ، إذا رجع وصلى يستطيع ، لكن الذي يطوف لابد يطوف قريباً من البيت ، ذوقك يفترض به ، التوحيدية ، الربانية تفرض أن يرجع إلى الخلف ويترك الذي يطوف قريباً من الكعبة ؛ لأنه ليس من المنطقي أن يكون الذي يصلي قريباً ، والذي يطوف بعيداً إذا كان هناك تزاحم .
يقول { وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا ، وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ ، وَالْقَائِمِينَ ، وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } [الحج/ 26] .
هذا البيت يجب أن يبقى طاهراً ؛ على المستوى المادي لا يجوز تنجيسه ، لا يجوز تلويثه ، لا يجوز هتكه ؛ بأي شكل من أشكال النجاسة ، وكذلك تطهيره ربانياًّ وتوحيدياًّ ؛ بأن لا يجعل فيه شيء يشد الناسَ إلى غير الله عز وجل .
ولذلك ، يُكره في مكة المكرمة أن تعلو البيوتُ والأبنيةُ بناءَ الكعبة ؛ حتى يبقى الناسُ مشدودين إلى الكعبة ، أما إذا علت الأبنية شُغل الناسُ عن الكعبة ، وصار في حقهم ما يلهيهم عن ذكر الله عز وجل ، جعلنا الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه .
اللهم صل على محمد وآل محمد .
اللهم كن لوليك الحجة ابن الحسن ؛ صلواتك عليه وعلى آبائه ، في هذه الساعة ، وفي كل ساعة ، ولياًّ ، وحافظاً ، وقائداً ، وناصراً ، ودليلاً ، وعيناً ، حتى تسكنه أرضك طوعاً ، وتمتعه فيها طويلاً .
اللهم انصر الإسلام والمسلمين ، واخذل الكفار والمنافقين .
اللهم اشف مرضانا ، وارحم موتانا ، وأصلح ما فسد من أمر ديننا ودنيانا .
اللهم سلم حجاج بيتك الحرام ، وسلم هذه البلادَ وجميعَ بلاد المسلمين ، شرَّ كلِّ ذي شرٍّ ؛ من قريبٍ أو بعيدٍ . وصلى الله على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين
هوامش :
(١) الكافي ، كتاب الحج ، باب في حج آدم عليه السلام ، الحديث 1 .
(٢) المصدر السابق ، باب أنه لو ترك الناس الحج لجاء هم العذاب ، الحديث 4 .
(٣) علل الشرائع للشيخ الصدوق ، وعنه : وسائل الشيعة ج 11 ، ص 12.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق