الثلاثاء، 23 سبتمبر 2014

الشيخ عبد الله النمر: التشبّث بالغريزة يحجب الفطرة عن الانطلاق بالإنسان في آفاق المعرفة والكمال

 تناول الشيخ عبد الله النمر في خطبته الأخيرة معنى الفطرة وحقيقتها وأثرها وأهميتها وعلاقتها بالغريزة ودورها الانفتاح بالإنسان على آفاق من الكمال والجمال قد يحجبه عنها التشبث بالعالم الأرضي ويتركه لاهثا وراء متع محدودة غافلا عما في فطرته من شغف واستعداد لتلقي كمالات وجمال هذا الوجود.

وافتتح سماحته الخطبة تاليا الآية الكريمة ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيّم ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون).

وقال سماحته أن محور الآية يدور على اصطلاحٍ هو من أكثر المصطلحات دورانا في الألسن وهو مصطلح "الفطرة"، وقد سبق أن قلنا سابقا أنّ الفطرة تختلف عن الغريزة التي تمثّل النوازع المادية البدنية التي تَهْدِي الموجود المادي إلى احتياجاته ومقتضيات بدنه، وهذا يشترك فيه الإنسان وكلّ الحيونات، إذ أنها مزودة بنوازع تهديها لما فيه صلاحها وتحمي بقاءها.

وأضاف: الفطرة أعمق من ذلك، وهي من باب التقريب- وإلا فإني سأخالف ما أقوله الآن لاحقا- الفطرة هي ما زرع في روح الإنسان ليأخذ به إلى آفاق كمالاته واحتياجاته الروحية.



هكذا صورناها في بعض أحاديثنا، ولكن نريد أن نتحدّث بتفصيل أكثر، في اللغة تعني الخلقة، فَطَرَه، بمعنى أوجده وأبدعه وأوجده من غير سابق، لكن هذه ليست مترادفات فالفطرة ليست هي الخلق، فللفطرة خصوصية عن الإيجاد، أي أوجده من أعماقه، وليس إيجادا خارجيا بل هو إيجاد داخلي فيه روح الانشقاق، ولذا يقال: فطرت النبتة الأرض أي شقتها وخرجت من عمقها، ولعله من هذا القبيل يقال: أفطر الصائم أي شقّ إمساكه. يقول الله تعالى (فاطر السموات) أي موجدها.

صفات الأمور الفطرية

هناك صفات تتصف بها الأمور الفطرية، تمتاز الفطرة عن الغريزة والعادات والتقاليد،  ولكن كثيرا ما يحدث خلط بين العادات وما هو مألوف ومعتاد وبين والفطرة، بحيث لا يعرف الإنسان ما هو الفطري منها وما هو من العادات والسلوكيات التي دخلت في حياة الإنسان لا من ذاته ولا من حقيقته.

1-  الخصوصية الأولى هي أنّ الفطرة عامة يشترك فيها الجميع، أما العادات والسلوك وربما الكثير من الأخلاق فتتفاوت بين الجماعات والأمم، أما الفطرة فعامة، هناك عادات عند العرب ليست موجودة عند الفرس وأخلاقيات عند الفرس لا يقبلها العرب.


 أما الأمور الفطرية فيشترك ويتساوى فيها الجميع، بل أن بعض العلماء يقول أنها أعمّ من دائرة الإنسان، كل ما في هذا الوجود مفطور ففيه نحو فطرة، نعم هي في الإنسان لها خصائص، قوية، حادة وموجهة، ولكنها ليست مقتصرة عليه، فالكائنات كلها تشترك فيها.

 إذن فالقدر المتيقن أن الفطرة أصل مشترك لا يختلف فيه عنصر بشري عن عنصر بشري آخر.


2-  الفطرة لا تتغير ولا تتحول ( لا تبديل لخلق الله)، أما العادات والآداب والسلوكيات تتغيّر من بيئة لأخرى ومن زمن لآخر، بل حتى بعض المستويات من الأخلاق فيها قابلية أن تتغير.


أما الأمور الفطرية فهي معيار وميزان لا يتغيّر، فهي عامة وشاملة وغير متغيرة.



3-  والفطرة باقية وثابتة ومستقرة وكذلك، لا تزول بل باقية في الإنسان منذ نشأته إلى خاتمته، تبقى مؤشرا واضحا جليا في أعماق الإنسان.


حقيقة الفطرة وأثرها

يقول بعض العلماء معرفا بنحو من الاختصار أن حقيقة الفطرة هي: إدراك الوجود وعشق الجمال والكمال. أشرت في بداية الحديث أن هناك خلل حين نقول أنّ الفطرة مزروعة في داخل الإنسان. في الاستخدام القرآني، القرآن يقول فَطَرَ الإنسان، ولا يقول أن الفطرة مزروعة، بل نفس الإنسان فطرة، الذات نفسها هي الفطرة وأصلها هو أصل الفطرة. لا أنك أنت وزرع فيك شيء يسمى فطرة.

متطلبات الفطرة

الفطرة تتطلب أمرين:

1-  إدراك ذات الإنسان، إدراكك أنك موجود، فالذي أوجدك أوجدك مدركا حساسا محيطا، ذا علم وذا معرفة، وهذه الخاصية في الإنسان هي منطلق البناء المعرفي في عالم الإنسان، الإنسان يختلف عن الحيوان أنه لديه منظومة معرفية ومشروع معرفي، نعم اليوم الإنسانية عندها خلل في معاييرها المعرفية، وتشويشات وقلق ومشارب مادية وشكيّة وسفسطائيات، ولكن يبقى الإنسان مسلحا بفطرة لو راجعها لكُشِفَتْ له الحقائق، ولو تحرك ضمن دائرة هذه الفطرة لقدمت له هذه الفطرة منظومة معرفية ومنهجية واضحة جلية.


2-  حب الجمال والكمال، كل إنسان هو في حدّ ذاته هو مشروع تعشق للجمال، يميل نحو كل جميل ويتعلق بكل جميل في اتجاه الكمال، نعم ما نراه من اختلال عام هو اختلال في التطبيق واشتباه في مصداق هذا الكمال والجمال، ما نراه من تعلق بأشكال الجمالات وألوان المبهرات هو اشتباه وخلل في التطبيق ليس إلا، يظن البعض أن الجمال هو في الغلبة والمكنة، ويظن البعض أن الجمال هو في التمتع باللذة والاستئناس بالمؤنّسات الماديّة،يتوقع البعض أن كمال الجمال هو في الجمال الظاهري كالوجوه والخدود والقدود وما شاكل ذلك، ولكن لو صفت فطرته فإنه لا يتمالك أن يتعشق الجمال الأكمل  والأتمّ.


3-  هذه الخاصية وهي انجذابه نحو الكمال تجعل منه كائنا متلهفا غير قابل للاكتفاء، وهذا ما أشرنا إليه في المرة السابقة، وهذا فرقها عن الغريزة التي طبعها الاكتفاء مهما كانت قوية وذات اندفاع إلا أنها بطبعها تميل إلى الاكتفاء بمجرد إشباع هذه الغريزة، نعم حين نرى الإنسان لا يشبع فهذا حصل له خلط بين مقتضيات الغريزة ومقتضيات الفطرة،  بمعنى أنه يُفْتَرَضُ أن يأكلَ حتى يكتفي، ولكنّه عبّدَ فطرته لغرائزه، كما أشرنا سابقا وكما قال أمير المؤمنين (ع) " كم من عقل أسير عند هوى أمير".


 وهنا لن تشبع غرائزه، وكما نقل عن بعض الملوك أنه يأكل حتى يتعب ويقول: إرفعوه، ووالله ما شبعت ولكن كلّت أسناني. لن يشبع لأنه لا يأكل لأنه يريد أن يشبع ولكن لأن فطرته أخضعت لغريزته وظنّ أن الجمال هو أن يأكل فأصبح يأكل حتى لا يكاد أن يكفّ، وهذه الحالة نجدها عند طلاب المال والمتعتة وسائر الغرائز.



عودة الفطرة

ولكن إذا رجعت الفطرة ووجهت التوجيه السليم وتخلّصت من براثن الغرائز، وتوجهت للجمال، حينها تنفتح للإنسان آفاق كمالات لا حدّ لها، ويبقى هذا الموجود يتلهف إلى الكمالات ويتعشق إلى الترقي ويعيش في حالة الانطلاق ولذا تقول الروايات " منهومان لا يشبعان، طالب علم وطالب مال".

  العلم ليس مجرد المعلومات وإنما الإحاطة والهيمنة الوجدانية والتكامل الروحي، وحركة التكامل لا تقف حتى بعد الممات وفي الجنة، ففي الدنيا يتحرك في تحصيل الكمالات، وبعد الموت يلاقي ما حصّل ويتمتع به، وفي الآخرة يفتح الله له من المتع والجمالات ما لا حدّ له وما لا يدركه العقل.

جاء في الروايات أن المؤمنين يزورون الله في كلّ أسبوع ويبقى يستمتعون ويتشهون سائر الأسبوع حتى اللقاء الآخر حيث يحظون بمتع وملذات تنسيهم الملذات السابقة، وهذه المعاني تحتاج إلى تأمّل لمعناها.

حين تدرك هذا فكم يتحسر الإنسان على قضاء الوقت في غرائز محدودة وإضمار القدرة الفطرية في أعماقنا، ليتحوّل الإنسان، هذا الكنز الهائل من القدرة على الانطلاق في آفاق الكمال والجمال والمتعة، يتحوّل إلى موجود محدود القدرة يتمتع بهذه الغرائز المحدودة التي تكتفي بالقليل، بل إنّ إضافة ما فوق الكفاية عنها يضرها ولا ينفعها.

نسأل الله تعالى أن يفك قيدنا ويطلق عناننا ولا يتركنا لأنفسنا طرفة عين أبدا، يفك قيدنا من البراثن التي وضعناها علينا، وأن يزيل عنّا الأغلال التي لم تقيد مجتمعاتنا فحسب، بل قيدت أيضا الأرواح ومنعتنا عن الصلة مع الله تعالى والتلذذ بمناجاته، وجعلت عباداتنا فارغة جوفاء بدلا من أن تكون أسباب انطلاق في الارتباط بالله عز وجل، وأن يرزقنا محبة محمد وآله ليكون ذلك مدعاة للهداية والقرب من الله تعالى.

ليست هناك تعليقات: