قال الشيخ عبد المحسن النمر في خطبته الأخيرة أن أيام الحج ليست سوى موسم للتجدد الروحي الذي لا يقتصر أثره على الحجاج بل تشمل بركاته الأمة الإسلامية جمعاء من نواح عدة أهمها الارتباط بالله تعالى وإشادة التآلف بين المسلمين، داعيا كل أفراد الأمة إلى الاستثمار الروحي لهذا الموسم بقوله: لا بد أن ينظر إليه على أنه ترقي من مرحلة الإيمان البسيط الساذج إلى مرحلة الإيمان الصادق.
وابتدأ سماحته الخطبة تاليا الآية الكريمة ( وأذّن في الناس يالحج يأتوك رجالا وعلى كلّ ضامر يأتين من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معدودات)
وافتتح سماحته الخطبة بقوله: تشرفنا هذه الأيام رحمة جديدة من الرحمات الإلهية ومنبع جديد من منابع الخير والعطاء والفيض الإلهي الرباني، ألا وهي أيام الحج إلى بيت الله تعالى، أيام العشرة الأولى من ذي الحجة التي تحلّ فيها رحمة جديدة من الله، في الحديث المروي من كتب الفريقين عن رسول الله (ص) أنه بشّر بهذه الأيام وقال أنّ أحبّ الأعمال إلى الله عزّ وجلّ هي الأعمال في هذه الأيام من ذي الحجة.
وبيّن سماحته أن هذا المظهر الذي يمارسه أبناء الأمة الإسلامية في كل عام هو جدير بالوقوف عليه، المرة تلو المرة لتدارس آثاره. وتوقف سماحته عندل ثلاث مسائل رئيسة حول الحج " الذي تقوم به ثلة من الأمة الإسلامية معبرة عن نهضة إسلامية متجددة في كل عام":
· التحرّك نحو الله
أول مظاهر ومعاني وأهداف هذا التواجد المليوني في كلّ سنة في أداء مناسك الحج هو توحيد الله عز وجل.
فالدعوة إلى الله، والعمل لتحريك الإنسانية إلى الله تارة يكون بين المرء ونفسه في صلاته ودعائه، وتارة يكون بالفرد بما هو فرد، وتارة يكون مظهرا عاما ودعوة صادقة علنية جهرية إلى البشرية للعودة إلى فطرتها بتوحيد الله عزّ وجل، فالحج ليس خاصاً بالأمة الإسلامية وإن كانت البشرية تركته وتناسته، ولكن أن الحج إلى عزّ وجل عمل يدعو له نبي الله إبراهيم (ع) الإنسانية بما هي إنسانية والبشرية بما هي بشرية، وهذا التواجد المليوني الهائل لأفراد الأمة الإسلامية في تلك الأماكن المقدسة هو استجابة وإحياء وتبليغ لهذه الدعوة الإبراهيمية التي ظهرت على يد الأنبياء (ع) واستكملت على يد المصطفى (ص).
لا يظهر في هذا الوجود وفي هذا العالم مظهر توحيدي علني جلي يحرك البشرية بأكلملها بأكمل من مظهر الحج والتواجد في هذه الأيام المباركة في بيت الله الحرام.
· دعوة للتآلف
الجانب الثاني من جوانب مظاهر العالمية العامة هي انّ الحج قوة وتوحيد وتآلف وتعاضد للموحدين التابعين للأنبياء، وللموحدين التابعين لرسول الله (ص)، إن التوحيد حينما يتجلى في أمة من الأمم وفي مظهر من المظاهر الخارجية فإنّ الحج هو ذلك المظهر. وحينما تتآلف هذه الملايين من كل فج عميق ومن كل جهة من جهات العالم، لتتواجد في هذا المكان وتعلن أن إله ولا معبود إلا الله عزّ وجل، فإنّ هذه عزّة وقوّة لهذه الأمة، وإنّ هؤلاء الشرذمة الذين يدعون إلى تمزيق الأمة وتفرقتها هي شرذمة بائدة ضالة لا قيمة لها ولا ار لها ولا امتداد.
هذا الذي نراه اليوم ممن يتبنى تمزيق الأمة والتفرقة بينها، فهذا مشرك لأنه يعمل كذا وهذا مبتدع لأنه يعمل كذا وهذا كافر لأنه يزور القبر الفلاني، وهذا ناقصد التوحيد والعقيدة لأنه يختلف عما يوجد عندنا، هذه دعوة بائدة لا قيمة لها.
ما النتيجة التي توصل إليها دعاة التفرقة والتمزّق؟! النتيجة هو ما نراه اليوم في ذاك البلد وتلك البلدة، وكما يسميها بعض العرفاء بأنها فتنة جوّالة، تدور في كل أنحاء العالم الإسلامي وتنتقي من البسطاء والسذج لتحرك فيهم دوافع الفتنة والتمزق والتعدي على الآخرين والتجبر على بعضهم البعض.
هذه الدعوات يمحوها هذا التجمّع، الفكر الإسلامي فكر موحد للإنسانية وموحّد للدعاة إلى الله عزّ وجل وموحّد للدعاةإلى الحق والإنسانية والفطرة البشرية.
هذه هي المظاهر العامة التي نراها واضحة جلية في الحج، وهذه هي القواعد الأساسية والثابتة لمعاني الحج، لا يمكن التنازل عنها، ولا يمكن للإنسان أنّ يحجّ إلى الله عزّ وجلّ وهو يدعو إلى هذين الركنين التوحيديين، توحيد عبادة الله عزّ وجلّ وقوة الأمة وعزّتها ووحدتها وتماسكها، وأي دعوة على خلاف هذين المبدأين وهذين الاتجاهين، هي دعوة تتعارض مع الحج، بل تتعارض مع أصل الإسلام، لا يمكن أن يكون الإنسان حاجا قاصدا لبيت الله، ذاهبا إلى أداء ما ينادي به الأنبياء وما ختم عليه الخاتم المصطفى (ص) وأتمه بدعوته وهو يحمل ما يعارض هذين الركنين.
· بركات عامة
النقطة الثالثة هي أن بركات الحج وآثار الحج ليست مقتصرة على الحججاج الذين يوفقون لأداء مناسك الحج لهذه السنة، الحج آثاره وبركاته أعمّ وأشمل، فالأمة الإسلامية بأسرها موضع للحج.
لقد أشرت في بداية الكلام إلى هذا الحديث النبوي، ما من عمل يكون أجمل وأتم وأكمل من هذه الأيام العشرة، بالطبع قد يكون لليالي القدر خصوصيات، ولكن حديثنا أن سائر الأيام ليس فيها من البركة ما في هذه الأيام.
علينا أن نكون ممن يستثمر هذه القاعدة الربانية المحمدية، علينا أن تكون هذه اليام لنا أيام وعي ومعرفة وأيام عمل صالح وبر ةتةاصل ومد يد إلى بعضنا البعض، وأيام خدمة بعضنا البعض وعودة الأمة الإسلامية إلى تكلتلها ووحدتها.
يقول الإمام زين العابدين (ع) مبينا أن الحج عمل وإن قامت به فئة من الفئات إلا أن آثاره وبركته تعم جميع من يساهم في هذا العمل ويقوم بخدمة هذا العمل. يقول الإمام (ع) " من خلف حاجا في أهله وماله كان له كأجره حتى كأ يستلم الأحجار".
الذين يقومون بخدمة الحجاج، والذي يحفظ الحاج في أهلهى وماله، أبناؤك الذين يقومون بشأنك إذا أنت سافرت، الذين علّموك ودلّوك على الحج، الذين هدوك لاتّباع الأنبياء، القائمون على مواكب وحملات الحج، الذين حثوك، زوجتك التي تحفظ بيتك ومالك، كل من يكون رافدا مؤيدا لهذا العمل، كل هؤلاء يكون لهم شراكة وجزء من ثواب وبركات الحج.
· سبيل الوحدة
ويقول الإمام الرضا (ع) مبينا علة الحج وأهدافه ودوافعه، وبعد أن يعدد الكثير من منافعه يقول: ومنفعة من في شرق الأرض وغربها، ومن في البر والبحر، ممن يحج وممن لا يحج". هي منفعة غير مقتصرة على من ذهب للحج وطاف وسعى، بل هي شاملة لكل أفراد المسلمين، في نشاطها وحركتها واقتصادها وحركتها واتحادها واتفاق كلمتها.
إن الدول والأمم اليوم تسعى لتوجد لها أسبابا لارتباطاتها، حينما تجتمع الدول الأوروبية لتشكل لها وحدة اقتصادية وسياسية، ةحينما تجتمع دول شرق آسيا لتشكل لها شكلا من أشكال التكتل السياسي والاقتصادي، إلى غير ذلك من أشكال التكتل الاقتصادي والسياسي الفاعل في العالم، فإن الحج بلا شك يوجد حالة من الترابط أقوى من كل شكل من أشكال التآلف.
فهؤلاء الآسيويون على ماذا يتآلفون، الصين ودول شنغهاي على ماذا يتآلفون؟ على لغة أو على عرق يعودون إليه؟ نحن نتفق كأمة إسلامية على المبادئ ووحدة الأهداف والحركة، فالحج أقوى سبب من أسباب تآزر الأمة وتآلفها وتآزر المجتمعات الإسلامية.
· استثمار روحي
جملة من المستحبات التي تبين أهمية الحج وأهمية هذه الأيام لكل إنسان ولكل مسلم ولكل متبع للمصطفى (ص) سواءا وفق للحج أم لا.
- فقد ورد فيها جملة من المستحبات ومنها صيام التسعة الأيام الأولى، فقد ورد فيها أن من صامها كان كمن صام الدهر، أي كمن عاش طول حياته صائما، كما ورد صلاة بهيئة خاصة من أداها كان شريكا للحجاج في أعمالهم.
- الأدعية التي وردت، وبالأخص الأدعية التهليلية والتوحيدية، وحينما تلاحظون جملة الأدعية التي وردت في هذه الأيام تجدون أنها تصب في عنصر الارتباط بالله وتوحيده ومعرفة جلاله وعظمته، ومعرفة عبوديتنا لله عز وجل وتحقيق ذلك في أنفسنا.
· سلالم الإيمان
- أختم كلامي بالنصيحة لي ولمن يعزم على أداء هذه الفريضة أولا أن تون حجتنا بداية مرحلة جديدة من مراحل أعمالنا، فإذا كانت الولادة قد نقلتنا من عالم الرحم إلى عالم الوجود الخارجي لتشكل مرحلة أولى من مراحل وجودنا، وإذا كان التكليف ينقلنا إلى مرحلة أعلى وأسمى، فإن الحج وخصوصا لمن يحج للمرة الأولى، لا بد أن ينظر إليه على أنه ترقي من مرحلة الإيمان البسيط الساذج إلى مرحلة الإيمان الصادق، بعد كل هذا الجهد المبذول، وبعد هذا البذل المالي والبدني، يجب أن تكون حياتكم بعد ذلك مختلفة عما قبلها، تلك مرحلة وما بعد الحج مرحلة أخرى من حيث الاعتناء بالدين والاهتمام بأداء الرسالة الدينية والعناية بالتربية وتوعية الأبناء، وتربية أهليكم وتقوية الجانب الديني في قلوبهم، يجب أن يكون الآن في مرحلة متقدمة عما سبق.
· رسالة الهوية
- الثانية أن تلتفت أنك في هذا الحج تحمل رسالة مبادئك فأنت تمثل هذه المبادئ التي انطلقت منها، أنت تمثل الدين الذي تحركت فيه والوعي الذي تمتلكه والمذهب الذي تتبناه، يجب عليك في أثناء أدائك للحج أن تراعي هذه الصورة التي تريد نقلها للناس، يجب أن تكون أعمالك في الحج أعمالا معلمة راعية ومناسبة لفهم الناس وقدراتهم.
مما يؤسف له أنّ بعض تصرفاتنا في الحج هي مما يسبب خدشا للمبادئ التي نحملها، حينما نقوم ببعض الأعمال التي تستفز الآخر، حينما ندعو دعاءا أو توسلا لا يكون مفهوما لدى الآخرين، فاعلم بأننا نضع أمام مبادئنا علامة استفهام، اذ لا يفهم الآخرون ماذا تقول، حينما نكون في الطواف أو المسعى ونقرأ بعض الأدعية التي هي في ذاتها صحيحة ولا بأس بها ولكنها غير مفهومة لدى الآخرين، وما يزيفه الإعلام عن مذهبنا من أكاذيب علينا أن لا نكون معينين على تحقيق هذه الصورة في أذهان الآخرين.
مع الأسف الشديد كثيرا ما يواجه الإنسان في أثناء الطواف من يتوسل برسول الله (ص) وآل بيته الأطهار، هذه المسألة صحيحة عقائديا ولا إشكال فيها، ولكن كثيرا من المسلمين تكون الصورة غريبة لديهم، غير مفهوم وغير واضح، يرى الناس يذكرون الله ويقرؤون القرآن وأنت تذكر أسماء رسول الله وأهل بيته الأطهار، هذه المسألة غريبة على أذهان الناس، فلنتجنب كل أمر لا يعيه ولا يدركه سائر الناس. وهذا ينعكس على جميع تصرفاتنا في الحج.
- النقطة الثالثة: تجنّب صغائر الأمور، لا تنشغل ببعض النقائص التي يواجهها الإنسان، بل أحيانا بعض التعديات، في الحج تأتي الناس من كل فئات المجتمعات البشرية، في طباعهم وتصرفاتهم وأشكالهم، فلا تجعل همك في أن تنظر إلى هؤلاء يعملون بهذه الكيفية، وأولئك يتصرفون بتلك الطريقة، دع عنك هذه الأمور وانشغل بالبحث عن الحقيقة وتربية نفسك وارتباطك بالله عز وجل.
- نسأل الله تعالى بجاه محمد وآله (ص) أن يجعلنا وإياكم ممن يستفيد من هذه الرحمة الإلهية وندعوا الله للحجاج بالمغفرة والقبول، وللأمة الإسلامية بالنجاة والعودة إلى منهج رسول الله وأن يرزقنا جميعا شفاعته وآل بيته الطاهرين.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق