الأحد، 1 يونيو 2014

الشيخ عبد الله النمر: الدعاء تجلٍ لذوات تمخّضت الخضوع فعلمتنا العزة

قال الشيخ عبد الله النمر أن حقيقة الدعاء هو أن تدخل في أفق دعاء الإمام محاولا أن تشعر بما يشعر به، لأنه هو الموجود القادر على معرفة الله ووصفه من خلال ذاته التي يتجلى فيها جمال الله وجلاله وكرمه وقدرته، ولأن ما سواهم ينزه الله نفسه عن أن يوصف بما يصفونه به، بل إن وصفهم مردود عليهم.

وافتتح سماحته الخطبة تاليا اللآية الكريمة (وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون ( * ) ياقوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون ( * ) ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين ( * ) )

ثم شرع سماحته في الخطبة قائلا: إن من ديدن الأنبياء دعوة قومهم إلى عبادة الله وإلى الارتباط به، والدعاء هو الوسيلة الأتمّ لعبادة الله تعالى، وهو المنهج الذي دعا إليه رسول الله وأهل البيت (ع) في سلوك طريق النجاة وللتخلص من الشرك والشك. 
وأضاف: إنّ مدرسة الرسول (ص) وأهل بيته (ع) مدرسة متكاملة وممنهجة، ذات معالم واضحة، لعله لا يتسع المقام للإحاطة بها، ولذا سنكتفي بذكر بعض أبواب ونوافذ هذه المدرسة والإشارة إلى بعض آفاقها، لكي نحيل هذه المدرسة إلى سلوكيات واقعية يفترض أن نسلكها:

• سمات مدرسة الدعاء عند أهل البيت (ع)

1- مدرسة الدعاء ذات بابين كبيرين:
أ‌- المعارف والإدراكات والإحاطات الفكرية والنظرية، فهي مليئة بالإحاطة بالكثير من آفاق المعرفة.
فحين نطالع نماذج من الأدعية التي وردتنا عنهم (ع) نجد فيها إشارات كثيرة إلى آفاق المعرفة، وكثيرا من الأبواب التي يراد لنا أن ندرك بعض آفاقها، ولكي لا يكون الكلام على مستوى الادعاءات العامة، نتعرض لنماذج ومصاديق نتطرق إليها لمعايشة هذه الأساليب والفنون التعليمية التي اتبعها أهل البيت (ع).

من الأمثلة والنماذج دعاء أم داوود الذي علمه لها الإمام الصادق (ع)، نجد في أثناء الدعاء إشارات إلى مقومات ومكوِّنات هذا الوجود ومدبرات هذا الكون، جرائيل مكائيل إسرافيل، بمعرفة مفصلة بهذه الموجودات النورانية ذات الأثر. نجد أنه دعاء وفي ذات الوقت هو هداية تبيين ورشاد لهذه الآفاق.

في طيات الدعاء يقول لها هكذا ادعي: " اَللّـهُمَّ صَلِّ عَلى جَبْرَئيلَ اَمينِكَ عَلى وحْيِكَ، وَالْقَوِيِّ عَلى اَمْرِكَ، وَالْمُطاعِ في سَمواتِكَ، وَمَحالِّ كَراماتِكَ الْمُتَحَمِّلِ لِكَلِماتِكَ النّاصِرِ لأنْبِيائِكَ الْمُدَمِّرِلأعْدائِكَ". إذا هذا الموجود له دور ومرتبة وأثر، جبرئيل له دور وموقعية في هذا الوجود.

ثم يقول أيضا:" اَللّـهُمَّ صَلِّ عَلى ميكائيلَ مَلَكِ رَحْمَتِكَ وَالَمخْلُوقِ لِرَأْفَتِكَ، وَالْمُسْتَغْفِرِ الْمُعينِ لأهْلِ طاعَتِكَ". هذا صنف آخر من الموجودات النورانية التي نسميها بالملائكة، دورها هو إعانة المخلوق، جبرائيل كان له دور في تدبير هذا الوجود، ولميكائيل ولصنف من الملائكة دور آخر، في إعانة الإنسان والأخذ بيده وتصريف الروح الإنسانية بدفعها إلى سبيل الكمال.

ثم ينتقل (ع) إلى صنف ثالث من الملائكة: "اَللّـهُمَّ صَلِّ عَلى اِسْرافيلَ حامِلِ عَرْشِكَ، وَصاحِبِ الصُّورِالْمُنْتَظِرِ لأمْرِكَ، الْوَجِلِ الْمُشْفِقِ مِنْ خيفَتِكَ".
فإذا هناك أصناف من الملائكة، ولا يكتفي الدعاء بتبيين هذه الأصناف، بل يقول: " اَللّـهُمَّ صَلِّ عَلى حَمَلَةِ الْعَرْشِ الطّاهِرينَ، وَعَلى السَّفَرَةِ الْكِرامِ الْبَرَرَةِالطَّيِّبينَ، وَعَلى مَلائِكَتِكَ الْكِرامِ الْكاتِبينَ، وَعَلى مَلائِكَةِ الْجِنانِ، وَخَزَنَةِ النّيرانِ، وَمَلَكِ الْمَوْتِ وَالأعْوانِ". هناك مراتب ومستويات من الملائكة. هذا دعاء أو هو درس مفصل للمعرفة في واقع الملائكة.

ب‌- لا يكتفي هذا الدعاء بالحديث عن عالم الغيب والملائكة، بل يتحدث عما يخفى على الإنسان مما يغور في نفسه وفي تركيبته الاجتماعية من أسباب الهداية والصلاح: يشير إلى اصطلاحات من مثل " الأبدال" و"السياح"، يقول (ع) في نفس الدعاء: " اللهم صل على محمد وآل محمد ...، وصل على الأوصياء والسعداء والشهداء وأئمة الهدى، اللهم صل على الأبدال والأوتاد والسياح والعبّاد "، الأبدال هم الذين بهم ترزقزن وبهم تمطرون وبهم يغفر لكم، هم مجموعة من المؤمنين لا يعرفهم الناس، كلما فقد واحد بدّله الله، الأوتاد هم الذين بهم قوام هذا الوجود، هذه زاوية من الزوايا التي تشير إليها الأدعية للكشف عن هذه الأبعاد.

• الأدعية ومقام أهل البيت (ع)

2- تتصدى الأدعية للإشارة إلى مقامات أهل البيت (ع)، تريد الأدعية أن تشير إلى أفق أكثر اتساعا، وإلى موقعية هذه الوجودات النورانية ومركزيتهم في هذا العالم، هم أناس وبشر منا وفينا، ولكن بلغوا من الكمال لمرتبة أن يكونوا هم مظهر الله ووجه الله وعينه.

في الدعاء المروي عن الناحية المقدسة للإمام الحجة (ع): " اللهم إني أسألك بمعاني جميع ما يدعوك به ولاة أمرك، المأمونون على سرك المستبشرون بأمرك، الواصفون لقدرتك ".

فأهل البيت (ع) الذين ندعوا الله بهم، يصفون قدرة الله، لا بمعنى أنهم يقولون أن قدرة الله كذا وكذا، ولكن حقائقهم وذواتهم تعطينا معنى صفات الله، عندما نقول بأن الله كريم قد يخطر في بالنا أشكال من التصورات، ولكننا نجد الكرم متجسدا في هذه الوجودات، عندما يعيش هؤلاء بين أظهرنا، لا نستطيع أن نشعر ونحس بكرم الله وعظمته وصفاته إلا من خلال ما نحسه ونلمسه من التعامل مع هذه الموجودات التي تصف قدرة الله وجماله وحلاوته.

" المأمونون على سرك، المستبشرون بأمرك"، أي المنطوون على كل ما يمكن أن ينطوي عليه الانسان من معرفة بالله. " الواصفون لقدرتك، المعلنون لعظمتك". هناك أمور يمكننا أن نبينها بالكلام، ولكن هناك أبعاد لا يمكن إدراكها إلا من خلال التذوق والمباشرة، وبهم (ع) تتبدا كثير من الأمور التي لا يمكن لنا إداركها واستيعابها، إذا فهذا أفق مما تتصدى الأدعية لتبيينه، الأفق المعرفي الإدراكي.

• الإمام الواصف لله

3- الأدعية تستهدف أبعادا أخرى، أسلوب ثالث تتصدى الأدعية لإظهاره: علاقة الإنسان بالله على مستوى المعرفة والإدراك، تقول الأدعية أنه لا سبيل للإنسان لإدراك الذات الإلهية، الإمام زين العابدين (ع) يقول في دعائه " قصرت الألسن عن بلوغ ثنائك كما يليق بجلالك، وقصرت العقول عن بلوغ كمالك، ولم تجعل للخلق للبلوغ إلى معرفتك طريقا إلا بالعجز عن معرفتك".
كل ما ندركه بعقولنا فهو لا يليق أن يوصف به الله (سبحان الله عما يصفون)، لا تستطيع العقول أن تدرك الجمال الإلهي. وأقصى ما يستطيع الإنسان الوصول إليه هو الإقرار بالعجز والتذلل والخضوع والانكسار والاحتياج. 

هذه بعض الآفاق الفكرية والإدراكية على كثرتها، ولكن الجهة الأولى للأدعية أنها جاءت لتصوغ روح الإنسان ضمن صناعة خاصة، وهذا لا يتأتى من خلال الدندنة بعبارات الدعاء، ولكن من خلال الدعاء فعلا، لا قراءة الدعاء، ما أقوله ما هو إلا إشارات إلى معان كلية، أما الدعاء فهو أمر آخر لا يمسّ، الدعاء هو أن تذيب نفسك وأحاسيسك في هذه القنوات، وأن تعيش بمقدار ما وهبك الله من عطاء ونبض وحياة في معاني هذه الأدعية، هذا هو معنى الدعاء.

• الإنكسار الذاتي

أول معنى وقبل كل شيء يريد الأئمة أن يعلمونا إياه هو حالة الاستكانة والافتقار والاستسلام والانقياد للإرادة الإلهية وللمشيئة الإلهية.

وهنا نستعين بالمناجاة الخمسة عشر التي هي من أدق وألطف اللسان البشري في التعامل مع الله عز وجل: "إلهي كسري لا يجبره إلا لطفك وحنانك، وفقري لا يغنيه إلا عطفك، وإحسانك، و روعتي لا يُسَكِّنها إلا أمانك، و ذلتي لا يعزها إلا سلطانك".

الفلاسفة يؤكدون أن الذلة والاستكانة والضعف ليست شكلية وليست أمور إضافية، حين أقول ذلي لا أقصد ذلي مقابل بعض الأعداء الذين يمارسون الإذلال لي، مذلتي هي عين ذاتي، وحين أقول فقري فلا أقصد احتياجي إلى بعض المال، مذلتي واستكانتي وحاجتي وفقري هي عين ذاتي، هي أنا، أنا ذلة وفقر وحاجة.

حين تتغلغل هذه المعاني في أعماق الإنسان، فإنه مهما كان مقتدرا ماديا، وبعيدا عن حالة الانذلال، فإنه هو ذاته، أمام قدرة الله تعالى هو ليس إلا فقرا وحاجة ومسكنة.

• الدخول في أفق الدعاء

حين يعيش الإنسان هذا الشعور بعمقه وإدراكه وكينونته يكون مهيأً للدخول في أفق الدعاء والتعامل مع حقيقة الدعاء، بل الاستكانة هي مخ الدعاء، في الحديث القدسي من الله تعالى لموسى: " إني أحب العبد الذي يبصبص لي" أي يتذلل ويتمسكن. يبدي الحاجة والفقر، لأن الإنسان إنما حقيقته هي الفقر والحاجة. حين يستشعر الفاقة سوف يستشعر لذة العلاقة مع الله وتنفتح أمامه آفاق من اللذة والأنس، وحالة من الحب والوله بالله عز وجل.


يقول الإمام زين العابدين (ع): " من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام منك بدلا، ومن ذا الذي أنس بقربك فابتغى منك حولا". كل ما يتلذذ به الناس فضلة وتفاهة أمام الارتباط بالله تعالى، من يذوق ذلك العالم ومن يدخل في هذه الدائرة يستصغر كل أنس ولذة وكل ملك وقدرة.

بل " اللهم إني أستغفرك من كل لذة بغير ذكرك "، 
ليس فقط لا اقبل عليه، بل أتوب إليك من التعامل معه لأنه حاجز وحائل، هناك غير الحبّ، الاستئناس والرجاء والإطمئنان، والأدعية غنية بهذه الآفاق، ولكن قد يطول الحديث في الاشارة إلى كلّ هذه الآفاق.

• مناغاة مشاعر الإمام

هذه المعاني هي استعراض علمي ومعرفي وفكري، ولكن الدعاء أمر آخر، هو أن تذوب وجدانا ومشاعرا وتناغي ما يشعره الإمام ويحسه، وهنا نعلم ماذا يعني حين يقف الإمام علي (ع) موقف الضعف والفقر والحاجة، هو أصدق منا حين يقول: أنا ضعيف، وهو المؤثر في هذا الوجود، وهو وسيلتنا إلى الله، ولكنه لأنه يعرف حقيقة الذلة أمام الله يحظى ويشعر بهذه القوة والغلبة ويشعر بالطمأنينة ويعيش اليقين، هذه الأحوال مترتبة على العيش الواقعي مع هذه المعاني.

قد نتساءل: كيف نفهم هذه الأمور من الإمام، كيف نفهم أن يقول: "أنا صاحب المعاصي"؟. هو الذي يعرف حقيقة المعاني، ونحن نتبعهم باللسان، صدق الاعتراف والإقرار هو يعرفها ويعلمنا إياها، ( سبحان ربك رب العزة عما يصفون) إلا عبادك المخلصون، هؤلاء هم الذين يصفون الله وجماله وكماله بوجوداتهم وكمالاتهم.

• الدعاء والإجابة

نسأل الله ألا يقطع بيننا وبينهم طرفة عين أبدا، ونحن نعيش ذكرى علي وزينب (ع)، هذا النموذج يصف لنا كم بلغ علي من رفعة، إنما بلغها عن طريق الدعاء.

نقطة أخيرة، أنّ الدعاء هو الإجابة، من استطاع أن يقول هذه المعاني من قلب، فقد وهب حقيقة الاستجابة، فحقيقتها أن تشملك الرحمة. ( ادعوني أستجب لكم) لا يوجد فاصل. فحقيقة الدعاء أن تدخل هذه المدرسة، وأن تتتلمذ على أيدي هؤلاء العظام.

ليست هناك تعليقات: