الاثنين، 2 يونيو 2014

لماذا سميت أيسلندا؟

قادتني الظروف للذهاب لأيسلندا. ولم يخطر في بالي من قبل التفكر في اسم هذا البلد الصغير والنائي، فما أن خرجت من الطائرة التي حطت في مطار صغير أنيق مزركش بألوان مبهجة، حتى أدركت أن هذا البلد سمي «ايسلندا» لأنه بارد، بل لأنه «الأرض المثلجة»، حين لفحتني نسمة أنستني دفء الطائرة وأننا في أشهر الصيف، وذكرتني بالواقع الصادم؛ أني في بلد بارد رغم طلوع الشمس. ولم أفهم كيف يستقطب ثلاثة أضعاف تعداد سكانه من السياح، رغم أنه بلد يقوم على أرض بركانية قاحلة قليلة السكان يقل تعدادهم عن 400 ألف، لديه الكثير من الثلج وكل ما يجود به البحر ولا سيما الحيتان. أما موضوع البرد فحدث ولا حرج، فما وراء أيسلندا هو المحيط القطبي والدائرة القطبية، ويبدو أن حتى السكان المحليين لا يجادلون في ذلك، فنحو ثلثي السكان يتكدسون في الزاوية الجنوبية من البلاد حيث العاصمة! وإن كان في أوروبا مكان بعيد، في نظر الأوروبيين، فهو دون شك أيسلندا.

لا أدري لماذا ذكرني هذا البلد بقصة سندريلا، فقد عاش دائماً مبعدا وفقيرا، إلى أن استفاد من خطة مارشال عقب الحرب العالمية الثانية، ليصبح بعدها من أغنى البلدان وأكثرها تقدماً، فقد حل في المرتبة 13 في مؤشر التنمية البشرية الذي يصدر عن الأمم المتحدة، وهو من بين أكثر بلدان العالم إنتاجية، رغم عدم امتلاكه للموارد، فهو يعتمد في تلبية أكثر من أربعة أخماس احتياجاته من الطاقة على المصادر المتجددة غير الاحفورية، على سبيل المثال لا الحصر. وقد أسهم كذلك في ثرائه واستقراره الاقتصادي استفادته من كونه جزءاً من منطقة التجارة الأوروبية لكنه ليس عضواً في الاتحاد، بل ان هناك معارضة واسعة للانضمام للاتحاد الأوروبي رغم أنه أنعش الصناعة والتجارة في أيسلندا وساعد في خروجه من اعتماده تاريخيا على تصدير الأسماك حتى تمكن من تنويع اقتصاده، وأدى إلى تدفق الاستثمارات الأجنبية لهذا البلد الصغير الذي كان دائماً منسياً.
ومن المرات القليلة التي تصدرت فيها أيسلندا الأخبار هي عندما انهار نظامها المصرفي تحت ضغوط الأزمة المالية العالمية التي اجتاحت العالم بدءا من العام 2008، فقبل ذلك كانت أيسلندا بمثابة معجزة اقتصادية للتنوع الاقتصادي في النصف الثاني من القرن العشرين. لكن يبدو أنها تتعافى من تبعات ذلك، فقد تعلمت دروساً ومنها كيف تتعامل مع رؤوس الأموال الأجنبية «الانتهازية» أو ما تعارف على تسميته بالأموال الساخنة. فقد أخذت تستعيد وضعيتها العالمية المتقدمة من حيث الأداء الاقتصادي-الاجتماعي، فمعدل البطالة متدنٍ، دون الستة بالمائة، وهي دولة رفاه على الطريقة الاسكندنافية، أي أن الحكومة تقدم خدمات صحية وتعليمية ورعاية اجتماعية شاملة للسكان.
عند التمعن في هذا البلد، الذي تنتشر فيه البراكين، والتي لن يفوتك الاستمتاع بالنظر لفوهات بعضها عند هبوط واقلاع الطائرة، بل ان انتشار الرماد البركاني الساخن جعلهم يستخدمونه في اعداد أنواع من الخبز عندهم؛ فعندما «يكشت» الايسلنديون في البراري، يعدون عجيناً ويغلفونه ويدفنونه في الرماد لساعات، ليخرجوه بعدها خبزاً أو كيكاً شهياً! أعود لأقول: عند التمعن تجد أن البلد محدود الموارد قاحل الأرض، فالزراعة تمثل نحو 5 بالمائة تسيطر عليها زراعة البطاطس، فمثلاً هم يستوردون الكثير من المنتجات الزراعية بما في ذلك الفواكه، لكن النقلة التي حدثت في هذا الاقتصاد الصغير كانت بسبب تشجيع الفكر القائم على الابتكار والريادة باستخدام الموارد المحلية المتاحة، بما في ذلك التوسع في البحث والتطوير في كيفية استخدام منتجات الأسماك صيدلانياً وفي مستحضرات التجميل، على سبيل المثال. لكن قبل ذلك، فإن المرتكز للإنتاجية العالية ولتدني مستوى البطالة في البلاد هو كفاءة نظام التعليم. والتعليم بحد ذاته لن يؤدي إلى تنويع اقتصادي، لكن أيسلندا تنفق نحو 2.7 من ناتجها المحلي الإجمالي على البحث والتطوير، وبالتالي الابتكار وترخيص البراءات تجارياً، وبذلك يتحقق الربط بين التعليم العام والعالي وبين الاقتصاد وزيادة المحتوى التقني المحلي، فمثلاً نجد أن جهود الريادة هناك منتجة في مساقات ثلاثة؛ الطاقة، الأسماك، تقنية المعلومات، والسبب أن البلاد ثرية بالطاقة من المصادر البركانية حتى أن بوسعها تصديرها بأسعار رخيصة لبلدان مثل المملكة المتحدة، أما الأسماك فهي منتجها الأساس وهي تدعم الأبحاث حول كل ما يتعلق بتصنيع الأسماك بما في ذلك الاستفادة من المخلفات. أما الدافع للاهتمام بتقنية المعلومات فبسبب ضخامة السوق العالمية وسعي أيسلندا الاستفادة من مزاياها النسبية بما في ذلك الصلة بين هذه التقنيات وانبعاث الكربون كونها من بين أقل بلدان العالم تلويثاً للغلاف.

ليست هناك تعليقات: