الأربعاء، 20 أغسطس 2014

الشيخ عبد الله النمر: الحديث عن رضا الله وسخطه لا يرتبط بذاته بل بالآثار التكوينية للأعمال البشرية.

في سياق حديث الشيخ عبد الله النمر عن "الأدب التكويني" في عدة خطب تناول العلاقة مع الله تعالى والارتباط به، وأوضح سماحته في الخطبة الأخيرة طبيعة اتصال الإرادة والتدبير الإلهيين بهذا الكون ومعنى انعكاس الفعل البشري سلبا وإيجابا على الله تعالى بالرضا أو السخط متناولا في الوقت ذاته مفهوم " تجسد الأعمال". 
وافتتح سماحته الخطبة منطلقا من الآية الكريمة (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين).
ثمّ أوضح سماحته أنّ اللغة والمفاهيم القرآنية لا يقدر كل أحد على إدراك آفاقها ومقاصدها ومداليلها وأعماقها بدرجة واحدة " فالناس يتفاوتون في استيعابهم بحسب تفاوت قدراتهم ومراتبهم، نعم اللغة القرآنية تعطي كل مصغ ومستمع بقدر ما يستوعب، بمعنى أن المنهج القرآني هو أن يخاطب الجميع ويحدّث الجميع ويستهدف أن يوصل المعاني بلغة إلهية عميقة، تناجي روح الإنسان وعمقه، ولكن الأرواح متفاوتة في شفافيتها ورقتها واستيعابها وقدراتها على الأخذ من القرآن الكريم".

• نبض الكون

ثم ّ قدّم سماحته بعض المقدمات التي يرى أن لها مدخلية كبيرة في الإضاءة لمقصد هذه الآية المختصرة والروايات الواردة في هذا المقام، في مقام القرب من الله عزّ وجلّ والتعامل مع الله، وفي أدب التعاطي مع الله جلّ وعلا، فقال سماحته:

- لعلّ مما تقرر في أحاديث سابقة أنّ كل ما يجري في الكون هو تدبير وسوق إلهي للحركة الإنسانية إلى تكاملها. وأنّ الصناعة والبناء الإلهي هي لكلّ فرد منّا.

وأضاف: لاحظ بدنك وجسمك كيف يتفاعل مع إرادتك وتدبيرك، إنما هو مظهر ومجلى لإرادتك لو صدق كل واحد وجداناً لوجد العناية في كل أموره، فإذا أردت أن تقوم فلا تصنع شيئا لكنك تجد أن جسدك طيع في الاستجابة التلقائية وإن أردت أن تجلس فستجد أن جسدك مخلوق ومصنوع ومهيّأ لكي تجلس.

 وأوضح سماحته أنّ هذه العلاقة بين الروح والبدن، وهذا التواشج والتداخل بينها حتى لا تكاد تفصل بين روحك وبدنك، هذا التداخل والترابط بل هذه الوحدة هي عينها موجودة بين إرادة الله ومشيئة الله وبين هذا الوجود، ليس فقط إرادة ومشيئة ولكن أيضا عنايةً ولطفا.

- هذا الوجود بكل آفاقه أشبه ما يكون بجسم لروح لإرادة كهربائية. أنت لاحظ جسمك كيف يستجيب لإرادتك، إذا أردت الحركة يستجيب جسمك مباشرة، هذا التماسك والتمازج والوحدة هي عينها في إرادة الله تعالى وتدبيره مع هذا الوجود.

حين تقول أن الله تعالى يفرح ويغضب ويبسط ويقبض فهذه حكاية عن الواقع الأرضي وعالم الوجود، وإلا فإن الله تعالى سبحانه يجلّ عن أن تعتوره الصفات وهذه التبدلات، فلا تؤثر فيه أفعالنا غضباً ولا رضا، وإنما هي تمثلات أفعالنا في عالم الوجود الأرضي الذي تمتد فيه الفيزياء والمعرفة البشرية.

وأضاف: السيد الخوئي عليه الرحمة يمثّل لهذا المعنى قائلا: افترضوا أن هناك يد مصنوعة لتتحرك بالكهرباء، ما الذي يحركها؟ اليد أم الكهرباء؟ هل اليد وحدها أم الكهرباء وحدها؟ الكهرباء وحدها لا تصنع حركة، واليد وحدها لا تصنع حركة، إذا فحركة اليد لا تنشأ إلا عن تمازج اليد مع الحركة.
ثمّ يأتي العلماء ليتفاوتوا في تصوراتهم حول التمازج بين اليد والكهرباء وليصل بعضهم إلى أن يقول بـ (وحدة الوجود)، وهو التصور بأنه لا توجد حالة انفكاك بين هذا العالم مع الله. وقد كان الفلاسفة المشاؤون يتصورون أن الله الواجب أوجد هذا العالم الممكن، ولكن ماهي العلاقة بين الواجب والممكن؟ كانوا يتصورون أنّ هناك انفصال مكاني وزماني وأن هناك سبق لله وتأخر لهذا الوجود، هناك لوازم كثيرة لهذا القول.

• اتصال وانفصال

يأتي علماء اليوم ليقولوا أنّ هذا الانفصال الشنيع بين الله تعالى وبين مخلوقاته غير صحيح، النصوص الدينية تحكي عن حالة تماسك، أما ما هي حدود هذه الحالة وكيفية هذا الاتصال فهذا تختلف حوله التصورات، فالصوفية يتصورون أنه اندماج تام ويقولون بـ(وحدة الموجود)، هناك تأملات وتطلعات عند الإنسان في محاولاته لفهم العلاقة بين الواجب والممكن، بين الخالق والمخلوق، يتفاوت الناس في تصوّر كيفية التدبير الإلهي. ولكن هناك تسالم بين كل المسلمين، بل عند كل الموحدين إذا كان هناك موحد غير مسلم فالجميع يعتقد أنالله هو المدبر الوحيد لهذا العالم، أما كيفية التدبير وعلى أي نحو فيتفاوت الناس في هذا المعنى.

أريد أن أصل إلى أن ما نصف الله به من هذه الأمور فهي إنما ترجع إلى العلقة مع الله جل وعلا،  فحين نقول أنّ الله تعالى يقبض ويبسط ويرضى ويغضب فهذا لا يعني بأنّ الله تعالى يتغير ولا يعني بأنّ حالاته تتغيّر، فهذا لا يرتبط بالله من قريب ولا من بعيد وهو لا يصل إلى إلى ذات الله بل يرتبط بهذا الوجود، وهو حديث عن هذا الوجود وعما يتأثر به هذا العالم، وهذا أيضا ما ينتهي إليه القول بتجسد الأعمال، وهذا يرتبط أيضا بتجسد الأعمال، العمل الصالح ينعكس على هذا الوجود بالنور والرائحة الطيبة والهداية والرشاد والصلاح، والعمل السيء ينعكس على الوجود بالخلل والمفسدة والإضرار.

• الإنسان محور الوجود

النقطة الأخيرة التي يجب أن نستحضرها في هذا المقام هي أن الإنسان، هذا الكائن البشري هو محور هذا الوجود، هو خليفة الله في الأرض، وهو الغرض والحكمة الإلهية والجمال الإلهي، التدبير الإلهي كله يدور حول هذا الإنسان ( خلقت الخلق لأجلك، وخلقتك لأجلي)، أنت أيها الإنسان الغرض النهائي لهذا الوجود، الوجود خلق لحكمة الجمال، ولا يمكن أن يتصوّر أبدع من الإنسان في هذا الوجود، أحلى ما في هذا الكون وأبدع ما في هذا الوجود وأبهى المخلوقات هو الإنسان، متى استقام  وحقق الإرادة الإلهية  والصنعة الإلهية والتدبير الإلهي، فالحكمة والتدبير والإرادة والحكمة الإلهية هي من خلالك أنت أيها الإنسان، ومن خلال سيرك أنت في طريق الكمال.

• الطريق الخفيّ

أما ما هو طريق الكمال فهو ما تريد أن تشير إليه الروايات، كما تشير الرواية عن الإمام الباقر (ع) عن أبيه عن الإمام الحسين عن أمير المؤمنين (ع)، وهذا الحرص في نقل السند يعبر عن حرص الإئمة (ع) على التأكيد على أن الرواية صادرة عن مصدر نقي نبّاع.

يقول (ع):" إنّ الله تبارك وتعالى أخفى أربعة في أربعة : أخفى رضاه في طاعته، فلا تستصغرنّ شيئاً من طاعته، فربّما وافق رضاه وأنت لا تعلم . 
وأخفى سخطه في معصيته، فلا تستصغرنّ شيئاً من معصيته ، فربما وافق سخطه وأنت لا تعلم. 
وأخفى إجابته في دعوته، فلا تستصغرنّ شيئاً من دعائه، فربّما وافق إجابته وأنت لا تعلم. 
وأخفى وليّه في عباده، فلا تستصغرنّ عبداً من عبيد الله، فربّما يكون وليّه وأنت لا تعلم ".

والسؤال هنا لماذا أخفى الله تعالى هذه الأمور؟ إخفاؤها ليس أمرا اعتباطيا ولكنه يدور مدار الواقع الخارجي، لا أنت تستطيع التحديد، ولا الملائكة ولا الكون تستطيع التحديد متى يتحقق منك الغرض من الوجود، ومتى يتحقق منك الفعل التكاملي، ولعله قد يتحقق في أمر بسيط وقد لا يتحقق في الصلاة والصيام، بل أحيانا الأعمال الصالحة تؤدي إلى الفساد للإنسان إذا لم تكن في مسار صحيح.

وهنا تأتي الرواية عن الإمام الرضا (ع) " من قال : لا إله إلا الله دخل الجنة"، ولكن لا قيمة لها بلا عمل، وأيضا الكثير من الصلاة والحج قد لا يكون لها أثر، والعمل لا قيمة له بلا نية، والنية قيمة لها ولا تؤدي أثرها في الواقع الخارجي بلا سنة وضمن الطريق الصحيح وضمن الشريعة. يقول الإمام الرضا (ع): " لا قول إلا بعمل ولا عمل إلا بنية ولا نية إلا بسنة".

وهذا ما يقوله مثل العلامة الطباطبائي رحمة الله عليه كلّ القوانين الإلهية وكل التشريعات الإلهية والمعاملاتية التي جاء بها أهل البيت (ع) إنما هي لكي تسوق الإنسان إلى رفعته وكماله.

• الحاجة المطلقة

وختم سماحته في الرواية أن الله تعالى قال في توراة موسى (ع): يا بني آدم أطيعوني بقدر حاجتكم إليّ، واعصوني بقدر صبركم على النار، واعملوا للدنيا بقدر لبثكم فيها، وتزودوا للآخرة بقدر مكثكم فيها، يا بن آدم أخرج حبّ الدنيا من قلبك، فإنه لا يجتمع حبّ الدنيا وحبي في قلب واحد". أي بمقدار ما تحتاجون إلى التدبير الإلهي والسوق الإلهي والجمال الإلهي، مقولة ابن لك وللدهر مقولة باطلة، والآخرة لا نهاية لها فاعمل لأجل طويل.

نسأل الله تعالى أن يوفقنا لفهم واستيعاب آفاق هذه المعاني وهذا الوجود التي فيها خير الدنيا والآخرة بحيث نسير عن وعي وبصيرة وإدراك. وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

ليست هناك تعليقات: