الأربعاء، 4 يونيو 2014

نعمة الوحي 2

قدمنا بعض الحديث عن نعمة الوحي في الأسبوع الماضي ، وإتماماً لما قدمناه أشير إلى ما ينبغي أن يشار إليه ، وهو : أن الوحي - حينما نتحدث عنه - لا نعني به خصوص ما كان يتلقاه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من طريقةٍ في تلقي المعارف عن الله تعالى ، بل نعني بالوحي ما يشمل المضمونَ ؛ الذي هو المعارف ، والدين ، والتدين الذي ينبغي ويجب أن على الإنسان أن يختاره في علاقته بربه عز وجل وفي علاقته بنفسه والآخرين .

فهذا ما نقصد بـ( الوحي ) .

فهل الوحي ؛ بهذا المعنى ، وأحدُ مصاديقه أن يبعث الله عز وجل بعضَ خلقه من أجل أن يحمل رسالةً ما ؛ ليبلغهم إياها ، هل يعد هذا من الأمور اللازمة والضرورية عقلاً ونقلاً ؟ يعني : هل يسلِّم العقلُ البشريُّ بأن هذا أمرٌ لازمٌ ؛ لازمٌ بمعنى : يجب أن يقع ، ممن يُتوقع منه القيامُ بذلك ؛ وهو الله سبحانه وتعالى ؟

الجواب : نعم ، وذلك لعوامل عديدة ؛ تناولها العلماءُ والباحثون ؛ كلٌّ بمنهجه . لأنكم - كما تعرفون أعزائي – العلماء في مختلف العلوم لهم مناهجهم ؛ التي تلتقي أحياناً وتختلف أحياناً . الفقهاء إذا أرادوا أن يستنبطوا حكماً شرعياًّ لهم طريقتهم أي منهجهم ، والمناطقة لهم طريقتهم ، الفلاسفة لهم طريقتهم ، علماء الفيزياء والكيمياء لهم طريقتهم ، وكل أهل تخصص لهم مناهجهم وطرقهم ؛ التي قد تختلف فيها الأدوات ، وإن كان هناك منهجٌ عامٌّ يلتقي فيه كلُّ هؤلاء .

نقول : هناك ضرورتان تفرضان أن يكون هناك وحيٌ ؛ نعده - نحن والعقلاء - نعمةً من النعم ليست أقلَّ قيمةً من نعمة المأكل والمشرب ؛ والذي يتقوَّم به وجودُ الإنسان الحيوانيُّ الماديُّ . يعني لكي يبقى الإنسان على قيد الحياة لابد له أن يأكل ، لابد له أن يشرب ، لابد له أن يتنفس . الوحي من هذا القبيل ، لكن ليس من أجل تأمين احتياجاتنا الجسدية .

يمكن للإنسان - على المستوى المادي والجسدي - أن يحيا ، ويكبر ، وينمو ، دون أي يعتقد بوحيٍ ، لكن سيفتقد خصوصيةً تميزه عما عداه من المخلوقات . وذلك أن الإنسان يمتاز عن الحيوانات الأخرى بخصوصية الإنسانية ؛ التي تجعله : يتعلم ، ويعلِّم ، يفكر ، يقبل ، يرفض ، يحب ، يكره ، يختار الطريقة الفلانية على حساب بالطريقة الفلانية . هذا لا نجده في الحيوانات . وهنا يمتاز الإنسان .

كيف يتميز الإنسان من غير دينٍ يتدين به ؛ والذي أشرنا في الأسبوع الماضي أنه ليس هناك أحدٌ على وجه البسيطة والأرض ؛ سابقاً ولاحقاً ، يُتصور أنه يعيش بغيرِ دينٍ ؛ أيا كان الدين الذي يختاره لنفسه ؛ ديناً سماوياًّ ، ديناً أرضياًّ ، يبتكره هو ، يتلقاه من غيره ، المهم أن له فلسفته الخاصة التي نسميها بـ( الدين ) ، وينظم حياته على أساس هذه الفلسفة ، وعلى أساس هذا الدين .

الذي ندعيه ؛ ونقيم البرهان عليه ، هو : أننا لسنا بحاجة إلى أيِّ دينٍ ؛ من أجل أن نحافظ على إنسانية الإنسان ! بل نحتاج إلى دينٍ من عند الله عز وجل ﴿ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك/ 14] ؛ الذي يفترض بنا - نحن البشر - أن نتجه إلى نقطةٍ يُراد لنا أن نتجه إليها ؛ إذا أردنا أن نحمل في ذواتنا صفة الإنسان ؛ الحامل للأمانة([1])، الخليفة لله عز وجل في الأرض ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة/ 30] .

موجبات الوحي

هناك ضرورتان أساسيتان تفرضان علينا أن نتدين بما يأتي من عند الله عز وجل .

طبعاً ، بعض هذه التطبيقات تفرض أن يكون هناك دينٌ من كل جهة ، لكن في خصوص الوحي هذه المبادئ التي نريد أن نتحدث عنها والضرورات تختص بالوحي ، أو نريد أن نسلط الضوء عليها - في ما يتعلق بجانب الوحي - :

الضرورة الأولى : الضرورة الفردية

الضرورة الثانية هي : الضرورة الاجتماعية

بمعنى أننا نحتاج إلى الوحي وإلى الدين إن كنا في حالة اجتماعٍ إنسانيٍّ ، نعيش في وسطٍ اجتماعيٍّ ، لابد لنا من دينٍ ، لابد لنا من رؤية في الحياة تؤمِّن لنا عدداً من الأبعاد ؛ أشير إليها بعد قليل .

لكن لسنا نحتاج إلى الدين إذا كنا في وسط اجتماعي فقط ، بل حتى لو كنا أفراداً نعيش على قلل الجبال وفي الكهوف ، لو كان هناك فردٌ من الناس هو يحتاج إلى الدين ؛ لتأمين الأبعاد التالية ؛ وهي عديدة ، لكن أشير إلى أربعة أبعاد :

البعد الأول : البعد النفسي

الإنسانُ لا يستقر على حالٍ واحدة ، بل ان وضعه النفسي يتأرجح بين الصفة ونقيضها ؛ بين القلق والاطمئنان ، بين الرضا والسخط ، بين العزوف عن الشيء والرغبة في الشيء ، وأمثال ذلك من الحالات النفسية .

لا يمكن لإنسانٍ أن يعيش قلِقاً دائماً ، ولا مطمئناً دائماً . نعم ، يسعى كلُّ واحد منا أن يختار الصفة الأفضل ، لكن لكي تتحقق له هذه الصفة الأفضل ؛ التي قد نطلق عليها عنوان ( الفضيلة ) في مقابل ( الرذيلة ) ، ألسنا - في تأمين ذلك - نحتاج إلى : فلسفةٍ ، ورؤيةٍ ، وأدواتٍ ، ومناهج ؟!

هذا ما نعنيه بالدين .

ولذلك ، نجد أن أولئك الذين يعيشون اضطراباً فكرياًّ ؛ قد يصل بهم الأمر إلى حد الجنون ، إلى حد الإحباط ، إلى حد اليأس ، قد يؤدي ببعضهم إلى حالات الانتحار ! لو دُرست حالتُهُ سنجد أن عنده اضطراباً نفسياًّ . حينما نغربل هذا الاضطرابَ النفسي ، نجد أن عنده قلقاً لم يستطع أن يؤمِّن احتياجه إليه .

ولذلك القرآن الكريم ماذا يقول ؟

﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ ﴾ [الرعد/ 28] ، فالاطمئنانُ القلبيُّ أمرٌ ينشده كلُّ عاقلٍ ، بل لو أن الإنسان لم يجد في نفسه هذا الاطمئنان لاطمأن وتيقن أنه في حالةٍ مرَضيةٍ ؛ يراجع فيها أهل الاختصاص .

طبعاً ، لنفترض ضربان القلب غير الطبيعي هو تعبير عن عدم الاطمئنان سيذهب إلى الأطباء ؛ لأن وضعه لم يعد وضعاً طبيعياًّ .

هل نحتاج إلى أن نؤمِّن البعد النفسي ؟

نعم ، تخصصات - الآن - في الجامعات ، في البحوث العلمية ، تخصصات من أجل تأمين الصحة النفسية .

نحن نعتقد أن الوحي هو أفضل مؤمِّن للصحة النفسية ، هو أن يعتقد الإنسان بالله عز وجل ، ويتلقى منه على أفضل ما ينبغي التلقي . لذلك ، القرآن ماذا يقول ؟! مضافاً إلى الآية التي ذكرناها ، آيات عديدة .

يقول ﴿ فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ﴾ [الزمر / 17، 18] .

البشارة ماذا تعني ؟

البشارة هي ما يبعث الاطمئنان إلى أن مستقبلك قد أمنته . كما يروي عن سلمان المحمدي ( رضوان الله عليه ) إِنَّ النَّفْسَ إِذَا أَحْرَزَتْ رِزْقَهَا اطْمَأَنَّت )([2]). فنحن نبحث عن الاطمئنان .

حينما نذهب إلى متاجرنا ، إلى أعمالنا ، إلى أرزاقنا ، في الحقيقة نحن نبحث عن الاطمئنان ؛ لأنه لو لم نؤمِّن هذه الأمور لعشنا حالةَ قلقٍ .

فالبعد النفسي يرفع ضرورةً فرديةً ، وكذلك ضرورةً اجتماعيةً . يعني هذا البعد عند الأفراد كأفراد ، وعند المجتمعات يحتاجون إلى أن يؤمِّنوا البعد النفسي .

البعد الثاني : البعد المعرفي

لا يمكن للإنسان ؛ إذا أراد أن يكون إنساناً يمتاز عن غيره من العجماوات والحيوانات ؛ فضلاً عن الجمادات ، إلا أن يمتاز عنهم بالعلم والمعرفة . فالأسود والفهود والقرود وأمثال ذلك من الحيوانات ما الذي يجعلها تعيش معيشةً واحدةً منذ أن تعرف الإنسان عليها ، وإلى يومنا هذا ، وإلى أن يشاء الله عز وجل ، سيبقى الأسد أسداً ، والفهد فهدا ، والقرد قرداً ، والحمار حماراً ، وهكذا .

الفرق هو أنهم لا يتعلمون ، غرز اللهُ عز وجل فيهم غرائزَ معينةً ؛ يتحركون بالغريزة ، فلا تتطور حياتهم ، لا يزالون يعيشون في الغابات بالطريقة التقليدية . الفهد قبل ألف سنة هو الفهد اليوم ، وهو الفهد بعد ألف سنة . في حين أن الإنسان أين كان قبل ألف سنة ؟! وأين هو الآن ؟! وإلى أين سيؤول حاله ليس بعد ألف سنة ، بعد عشر سنوات ؟!

الفارق هو العلم والمعرفة ، فالحيوانات جاهلة والإنسان عالم . لكن الفرق أن العلم الذي ينشده الإنسان له آفاق كثيرةٌ جداًّ . هناك مَن يقتصر على علمٍ في مجالٍ معينٍ ؛ كالمجالات المادية ، لكن الوحي يقول للناس : لا ينبغي لكم ان تقصروا علمكم على الأمور المادية فقط ، ( وَلاَ تَجْعَلْ الدُّنْيَا ... مَبْلَغَ عِلْمِنَا )([3])، أو ﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الروم/ 7] ؛ كما يقول القرآن الكريم . يقول : الله سبحانه وتعالى خلق هذا العالم ، وهذا العالم يفرض أن يتأمل فيه ، فيه شهادة ؛ وهو الذي ندرسه .

عالم الشهادة يعني : ما يدرس في المختبرات ، وما يدرس في البحث العلمي والأسفار . هذا عالم الشهادة .

لكن وراء عالم الشهادة هذا هناك عالم غيب ، البعد النفسي عالم غيب ، الماضي عالم غيب ، المستقبل عالم غيب ، قبل الدنيا عالم غيب . وبعد الدنيا عالم غيب . يعني : قبل أن يوجد الإنسان هنا مرَّ في أطوار غيبية ، وبعد أن ينتقل من عالم الدنيا سينتقل إلى عوالم غيبية .

هل يتأتى للناس - بما أوتوا من العلم الحالي - أن يؤمِّنوا لهم العلمَ بهذه المسائل الغيبيات وأدواتهم المعرفية قاصرة ؟!

لا يدَّعي أحدٌ ذلك .

لذلك ، فإن الماديين ماذا يقولون ؟!

يقولون هذه أمورٌ لا تعنينا ! لا يقولون أننا نزعم المعرفةَ فيها ! يقولون هي أمورٌ لا تعنينا ! أو يتطور الأمر عندهم ينكرونها بطريقة أو بأخرى ! لكن لا يستطيعون أن ينكروها بالمطلق ؛ حتى الملاحدة الذين لا يؤمنون بأن الله خلق العالم هم يعتقدون بعالم الغيب ، وأنهم لم يكونوا ثم كانوا ، لكن الذي خلقهم قد يناقشون في أن الخالقَ هو الله أو هو الطبيعة !

نقول : هذه الطبيعة نريد أن نتعرف عليها ، هذا على الغيب .

هل علمكم الذي توصلتم إليه يعرفكم بهذه الطبيعة ؟

ما نعتقد أنه الوحي علمنا يعرِّفنا بخالق البشر ، يعطينا له عدداً من الصفات ؛ كما يتاح لنا أن نعرفه .

فهذا بعدٌ معرفيٌّ .

هل جهود البشر الخاصة ؛ غير المرتبطة بالوحي تؤمِّن لنا كلَّ احتياجاتنا المعرفية ؟!

بالطبع لا ، هي تؤمِّن لنا بعض الاحتياجات . نعم ، في المختبرات نحن لا نتصل بالأنبياء ، ولا نسأل الأنبياء ، المطلوب منا أن نبذل جهداً مخبرياًّ حتى نتعرف على خصائص هذه النبتة ، خصائص هذا الأمر ، والله سبحانه وتعالى لم يكلفنا بأن نستنطق الآيات والروايات في هذا الباب . قد نستهدي بها ، لكن المطلوب أن نبذل جهداً مادياًّ ، لكن هناك آفاق لا نستطيع نحن أن نتعرف على : كيف يحاسب الله خلقه ؟!

﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة/7،8]، ويقول ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴾ [النجم/ 39] ، ويقول ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة/ 105] . هو يؤكد أن عملك هذا له نتيجة ، له عاقبة ، وله حسابٌ ، وله كتاب ، وأنك ستواجه هذا العمل ، لكن : كيف ؟ متى ؟

علمي وعلمك لا يتيح لنا معرفة ذلك .

نستنطق مَن ؟

تستنطق الوحي ؛ المتمثل في الكتاب الكريم والسنة المطهرة الواردة عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أو عن من شهد لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنهم ورثة علمه ، وأنهم يحملون من العلم ما جاء به من عند الله عز وجل ؛ كما في القول المتواتر عنه ( أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا )([4]) ، أو أن أهل البيت ( عليهم أفضل الصلاة والسلام ) ؛ المخصوصين والمحددين ، لا يتخلفون عن القرآن قيد أنملة ، باقون في الناس ما بقي فيهم القرآن ، ( وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ )([5]).

القرآن فيه تبيان كل شيء ، هذا القرآن الموجود عندنا فيه تبيان كل شيء([6])، لكن ليس في الأمة أحدٌ يزعم بأنه يعلم القرآن كله . الرسول ( صلى الله عليه وآله ) شهد لفئة من البشر ؛ هم عترته ، أنهم يحملون علم القرآن كله ، يشبه حالهم حالَ من جاء ذكره في القرآن الكريم ﴿ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا ﴾ [النمل/ 38] ، فدار اللغط ، قالت الجن منطقاً ، ﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾ [النمل/ 40] ، أي علم هذا ؟!

علمٌ جاء له من عند الله عز وجل ؛ عبر سليمان ، عبر الإلهام ، عبر الوحي ، بأي طريقة من الطرق ، هذا ما نريد أن نتكلم عنه .

نحن نحتاج ؛ كبشر ، كأفراد ، وكجماعات ، إلى هذا العلم ، وإلا سننزل عن مستوى الإنساني المنشود .

هذا بعد .

البعد الثالث : البعد الروحي

لا يكفي أن نستقر من الناحية النفسية فقط ، بل لابد أن ننشد الكمال والتكامل ، وإلا سينزل مستوى الإنسان في رقيه الروحي . هذا أمرٌ يختلف عن البعد النفسي ، البعد التكاملي غير بُعد الاستقرار والفضائل النفسية .

هذا في ما يتعلق بشكل خاص بعلاقتنا العمودية بالله عز وجل .

كيف نتعرف على هذا المعنى ؟

أن نكون عباداً صالحين ؛ وفقاً لخارطة الطريق التي رُسِمت لنا من خلال الوحي .

هل يستطيع أحدٌ أن يؤمِّن لنا هذا الجانب ؛ بعيداً عن الوحي ؟!

نحن - أصحاب الديانات - ندعي أن هذا غير ممكن ، إنما يتيسر لذلك لمن آتاه الله عز وجل العلم اللازم ؛ حتى يتعرَّف الناسُ على أنفسهم ، فيكون ذلك طريقاً إلى معرفتهم بربهم ، فقد جاء في الحديث الشريف (مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ‏ُ )([7]) .

مَن يعرفنا أنفسنا ؟

الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [الأحزاب/ 6] . سر هذه الأولوية يكمن في ماذا ؟

في أنه أعرف بينا من أنفسنا ؛ لأنه لا يتصور أن الله عز وجل يعطيه الولاية علينا ونحن نعرف بأنفسنا منه ؛ لأن هذه الولاية ستكون ولايةَ مَن لا يعلم على مَن يعلم ! وهذا أمرٌ تستقبحه العقول السوية ؛ فلابد أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يعرفنا أكثر من أنفسنا ، وقد ثبت ذلك في محله ؛ قد نستعرضه في مناسبات معينة . مضافاً إلى أن الله عز وجل ؛ الذي ذكر في القرآن الكريم أنه ﴿ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء / 9] ، أيضاً هو يفترض في هذا القرآن أنه يعرف الناس أكثر من الناس ، والقرآن تبيان لكل شيء ، ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عرَّفه الله عز وجل علمَ القرآن كلَّه .

هنا يتأمل لنا البعد الروحي .

البعد الرابع : البعد المصيري

نحن لا نتحدث ؛ في الرؤية الدينية حينما نتكلم عن نعمة الوحي ، أن الإنسان يأتي إلى هذه الدنيا ثم يتوفاه الله عز وجل أو يحين أجله وتنتهي علاقته بالوجود ، بل لقد قام الدليلُ على أن هذا الإنسان لا تشكل حياتُهُ الدنيويةُ إلا ومضةً سريعةً من مجمل حياته التي ابتدأت ولن تنتهي .

لأن الناسَ فريقان ؛ هم مخلدون في كلتا الحالتين : أما خالدون في الجنة ، أو - نعود بالله - خالدون في النار . ليس هناك ثالث([8])، يعني ليس هناك أحد ستنقطع صلته الوجودية عن الواقع . وبالتالي ، المصير لا يمكن إلا أن نضعه في حسباننا .

هل نستطيع أن نقطع المصير عن المسير ؟!

مسارك هنا هو ما يحدد مصيرك هناك ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة/ 105] ، أو ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴾ [النجم/ 39] .

لا نجاة بغير الوحي

هل نستطيع أن نؤمِّن المصير اللازم دون الرجوع إلى الوحي ؟!

الجواب : كلا .

الرؤية القرآنية ؛ وهي التي جاءت من عند الله عز وجل ، جاءت لتضع الناسَ وفق مبادئ معينة على معالم وملامح هذه الرؤية ؛ التي تجعل العاقل - أياًّ كان - لا يستغني عن الرجوع إلى الله عز وجل . ولذلك ، يعطينا إرشاداً ويقول ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل/ 43] .

في الجوال الصغير نحن إذا لم نكن نعلم نسأل صانعيه ، كيف نتعامل مع هذا الجهاز ؟ فكيف بهذا الإنسان ؟!

﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك/ 14] ، إذا كان الله هو خالق هذا الإنسان ألا نسأله :

هل حددت له مصيراً ؟

هل رسمت له مساراً ؟

هل أرسلت إليه نظاماً فصَّلتَ فيه ما يجب أن يفعله وما لا يجوز أن يفعله ؟

لو لم نقل بذلك لكنا قد رجعنا إلى الوراء خطوات ؛ بعد أن كان المفروض أننا انتهينا منها !

فمن آمن بالله عز وجل وقال لا إله إلا الله ، وأراد أن يكون من أهل الفلاح ، لابد أن يضع هذا في حسبانه . ولذلك ، كان من شعارات الإسلام ﴿ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة/ 156] .

تبعات الانحراف عن الوحي إلى الأهواء

الذين لا يعملون وفق هذه الرؤية سيعملون وفق أهوائهم ! كيف وفق أهوائهم ؟

وفق أهوائهم التي جعلت البشريةَ منذ فجر التاريخ إلى يومنا هذا ؛ وإلى أن يشاء الله عز وجل خروجَ مَن يصلح أمر العالم على يديه ، سيظلون يعيشون في تقلبات ! وبطبيعة الحال ، هذه التقلبات ، وهذا الإفساد في الأرض لن يفعله من يرتكبونه دون يافطات جميلة وبراقة ومغرية ، بل سيرفعونه وراء مثل هذه اليافطات !

فقد يقتل باسم الشارع ! يقضي بالحكم الجائر باسم الشارع ! ليس الضحيةَ أمثالَنا نحن ، بل الضحية أمثال الإمام الحسين ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) ؛ والذي نعيش - بعد أيام - ذكرى ولادته ( عليها أفضل الصلاة والسلام ) .

أليس هو ابن بنت رسول الله ؟!

أليس هو وأخوه ( سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ )([9]) ؟!

كيف تعاملت الأمة مع دعوته ؛ والتي يفترض بها أن تقودهم إلى الجنة ؟!

للأسف الشديد أزهقت روحه بغير حق ! ثم تتوالى مراحل التاريخ لتعيِّر من يحبونه ( صلوات الله وسلامه عليه ) ، ومن يريدون أن يستذكروا ذكراه ! والسبب هو أن هناك مشروعين اثنين :

1. مشروعاً ينتمي لله ؛ يعمل بالحق

2. ومشروعاً ينتمي للشيطان ؛ يعمل بالباطل ، لكن بطريقة مزخرفة !! بطريقة مبهرجة !!

ولذلك ، فإن أمير المؤمنين ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) حذر بعضَ من تصدى للقضاء في زمنه ، قال : قَالَ قَدْ جَلَسْتَ‏ مَجْلِساً لَا يَجْلِسُهُ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ وَصِيُّ نَبِيٍّ أَوْ شَقِيٌّ )([10]). لأن القضاة قد يحكم بالحق لكن حتى إذا حكم بالحق وهو لا يعلم بالحق هو في معرض للخطر ، بل بعض الأخبار تشير إلى أنه سيكون - نعوذ بالله - من أهل جهنم ومن أهل النار ، فكيف إذا حكم بالباطل وهو يعلم أنه باطل([11]).

نسأل الله - عز وجل - أن يجنبنا وإياكم الباطلَ قولاً وفعلاً .

اللهم صل على محمد وآل محمد .

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه ، في هذه الساعة ، وفي كلِّ ساعةٍ ، ولياًّ ، وحافظاً ، وقائداً ، وناصراً ، ودليلاً ، وعيناً ، حتى تسكنه أرضك طوعاً ، وتمتعه فيها طويلاً .

اللهم انصر الإسلام والمسلمين ، واخذل الكفار والمنافقين .

اللهم اشف مرضانا ، وارحم موتانا ، وأغنِ فقراءنا ، وأصلح ما فسد من أمر ديننا ودنيانا .

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين .

--------------------------------------------------------

([1]) قال الله تعالى ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾ [الأحزاب/ 72] .

([2]) المعجم الكبير للطبراني 6/ 219؛ حلية الأولياء ، ج 1 ، ترجمة سلمان الفارسي .

([3]) انظر : مستدرك وسائل الشيعة ، ج 6 ص 285 ، كتاب الصلاة ، أبواب الصلوات المستحبة ، 6 - باب صلاة ليلة النصف من شعبان ، وكيفياتها ، والإكثار من العبادة فيها ، الحديث 6853 .

([4]) إتحاف المهرة لابن حجر ، ج 3 ، ص 229 .

([5]) انظر الأمالي للشيخ الصدوق ، المجلس التاسع والسابع ؛ مصنف ابن أبي شيبة ج 6 ، ص 309 ، الحديث 31679 ؛ فضائل الصحابة لابن حنبل ، باب فضائل علي عليه السلام ؛ مسند أحمد عن أبي سعيد برقم 11104 .

وروى الترمذي في سننه بتحقيق شاكر ، ج 5 ، ص 663 أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنَ الآخَرِ: كِتَابُ اللَّهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ. وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْضَ فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا ) .

وجاء في إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة ، ج 6 ، ص 329 برقم ( 5950 / 2 ) وقال : رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، ثَنَا شَرِيكٌ، عَنِ الرُّكَيْنِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ حَسَّانٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [ وآله ] وَسَلَّمَ -: إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا : كِتَابُ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ – وَعِتْرَتِي ، وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا الْحَوْضَ " .

هَذَا إِسْنَادٌ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ ) انتهى .

([6]) قال تعالى ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ [النحل/ 89] .

([7]) بحار الأنوار ، كتاب العلم والعقل والجهل ، أبواب العلم ، باب استعمال العلم ... ، الحديث 22 ؛ التيسير بشرح الجامع الصغير للمناوي ، ج 1 ، ص 493 ، شرح نهج البلاغة ، ج 2 ، الحكمة رقم 339 .

([8]) قال الله تعالى ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴾ [الشورى/ 7] .

([9]) قال أبو عبد الله الكتاني في ( نظم المتناثر من الحديث المتواتر ) ، ص 196 ، طبعة دار الكتب السلفية ، تحقيق شرف حجازي :

أورده في الأزهار من حديث (1) أبي سعيد (2) وحذيفة بن اليمان (3) وعمر بن الخطاب (4) وعلي (5) وجابر بن عبد الله (6) والحسين بن علي (7) وأسامة بن زيد (8) والبراء بن عازب (9) وقرة بن إياس (10) ومالك بن الحويرث (11) وأبي هريرة (12) وابن عمر (13) وابن مسعود (14) وأنس (15) وبريدة (16) وابن عباس ستة عشر نفساً.

(قلت) ورد أيضاً من حديث (17) الحسن بن علي ونقل أيضاً في فيض القدير وفي التيسير عن السيوطي أنه متواتر ) .

([10]) وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 17 ، 3 - باب أنه لا يجوز لأحد أن يحكم إلا الإمام أو من يروى حكم الإمام فيحكم به ، الحديث 33091 ، ط مؤسسة آل البيت ( عليهم السلام ) .

([11]) جاء في سنن ابن ماجه ، ج 2 ، ص 776 ، برقم 2315 ، قال : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ تَوْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هَاشِمٍ، قَالَ: لَوْلَا حَدِيثُ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [ وآله ] وَسَلَّمَ، قَالَ: الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ، اثْنَانِ فِي النَّارِ، وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ، رَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ جَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ» ، لَقُلْنَا: إِنَّ الْقَاضِيَ إِذَا اجْتَهَدَ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ ) .

وجاء في سنن الترمذي ت بشار ، ج 3 ، ص 6 ، برقم 1322 ، قال : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنِي الحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [ وآله ] وَسَلَّمَ قَالَ: القُضَاةُ ثَلاَثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ فِي الجَنَّةِ، رَجُلٌ قَضَى بِغَيْرِ الحَقِّ فَعَلِمَ ذَاكَ فَذَاكَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ لاَ يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى بِالحَقِّ فَذَلِكَ فِي الجَنَّةِ ) .

وروى ابن أبي شيبة في مصنفه [ ج 4 ، ص 540 ] ، بإسناده عن علي ( عليه السلام ) أنه قال : الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: اثْنَانِ فِي النَّارِ، وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ "، فَذَكَرَ اللَّذَيْنِ فِي النَّارِ، قَالَ: «رَجُلٌ جَارَ مُتَعَمِّدًا فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ أَرَادَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَ فَهُوَ فِي النَّارِ، آخَرُ أَرَادَ الْحَقَّ فَأَصَابَ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ» قَالَ: فَقُلْتُ لِرُفَيْعٍ: أَرَأَيْتَ هَذَا الَّذِي أَرَادَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَ؟ قَالَ: «كَانَ حَقُّهُ إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْقَضَاءَ لَا يَكُونُ قَاضِياً» .

ليست هناك تعليقات: